حمزة عقرباوي: رحيلٌ مفجعُ لـ”حكواتي فلسطين” غرقاً في النيل!

فاجعة ثقيلة ومباغتة، طوى نهر النيل صباح أمس، الصفحة الأخيرة من حياة الباحث وجامع التراث البارز، الملقب بـ”حكواتي فلسطين”، حمزة عقرباوي، الذي قضى غرقاً في العاصمة المصرية القاهرة، تاركاً خلفه إرثاً نوعياً في توثيق الذاكرة الفلسطينية، بعد حياة نذرها للمشي في جبال فلسطين وحراسة حكاياتها من النسيان.
وفور انتشار الخبر المفجع، تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى سرادق عزاء مفتوح، حيث ضجت الأوساط الثقافية والشعبية بعبارات رثاء ركزت على مفارقة رحيل “ابن الجبل” غرقاً في “نهر غريب”، فقد نعته وزارة الثقافة معتبرة إياه “جسراً بين الذاكرة الشعبية والتوثيق المعاصر”، في حين شدد المتحف الفلسطيني على أنه، ورغم رحيله، فإن القصص التي كان يستعيدها ويحكيها، ستظل تمشي بين الناس، أثراً يدلّ عليه، ويشهد للأرض وأهلها.
وُلد حمزة في العام 1984، ونشأ في قرية عقربا قضاء نابلس، تلك القرية التي تعاني بشكل مستمر من هجمات وجرائم المستوطنين، بحيث شكلت هذه البيئة الريفية اللصيقة بالأرض، والمحاطة بالخطر، الوعي المبكر له، وأسست لمشروعه المعرفي.
أدرك مبكراً أن الصراع مع المحتل ليس فقط على الأرض، بل على الرواية؛ فبدأ مشروعه في جمع الحكايات وتوثيق الذاكرة الجمعية، رابطاً المكان بالسرد، ومؤمناً بأن الحكاية هي أحد أشكال الدفاع عن الوجود الفلسطيني في وجه الاستيطان والمحو.
واشتهر عقرباوي بجمع الموروث الشعبي الفلسطيني، من أمثال وأهازيج ومعتقدات شعبية، كما كان ينظم جولات معرفية وعروضاً تعليمية في القرى والمواقع المفتوحة، محولاً الجغرافيا إلى نص حيّ، وسارداً القصص في سياقها الطبيعي.
كما أسس عقرباوي أرشيفاً ضخماً يضم مئات الصور والوثائق التاريخية، بما في ذلك دفاتر قديمة ومراسلات ووثائق ملكية وشهادات، تغطي فترات زمنية تمتد من أواخر القرن التاسع عشر حتى أواخر القرن العشرين، ما يتيح قراءة دقيقة لتاريخ الناس والمكان.
لم يكتفِ عقرباوي بالعمل الفردي، بل حول شغفه إلى مؤسسات ومبادرات جماعية، حيث أسس وقاد مجموعات شبابية لترسيخ فلسفة “امشِ بتعرف”، فعبر دوره المحوري في تأسيس وقيادة مجموعة “تجوال سفر”، نقل مفهوم التجوال من مجرد رياضة بدنية إلى فعل ثقافي ووطني عميق، فكان من بين مؤسسي فلسفة المشي في الأرض الفلسطينية، مردداً على الدوام، أننا “نمشي لنقرأ الأرض”، ما دفعه لقيادة مئات المسارات التي جابت جبال الضفة الغربية، وسهولها، وأغوارها.
في كل مسار، كان حمزة يحول الجغرافيا الصامتة إلى تاريخ ناطق، يشير إلى خربة مهجرة، ويسمي النباتات بأسمائها الكنعانية والعربية، ويسرد أسطورة عين الماء، ليخلق بذلك خريطة معرفية في وعي المشاركين تتحدى خرائط الاحتلال ومسمياته، كما نجح في خلق مجتمع شبابي واعٍ بقيمة الأرض، حيث لم تكن مساراته ترفيهية بقدر ما كانت دروساً ميدانية في التاريخ والجغرافيا والانتماء.
لم يكتفِ حمزة عقرباوي بجهده الفردي، بل توج مسيرته بلعب دور محوري في “ملتقى حكايا”، المبادرة الرائدة التي هدفت إلى استعادة مركزية القصة في المجتمع الفلسطيني والعربي، فقد عمل ضمن “ملتقى حكايا” على تأسيس وتدريب جيل جديد من الحكواتية، مستفيداً من دعم مشروع “مشكال” الثقافي الممول من الاتحاد الأوروبي، لإضافة طبقة أخرى تعكس إيمانه بأن الحفاظ على التراث الشفوي هو حفظ للهوية الإنسانية في هذا الجزء من العالم.
وبفضل هذا الإطار، انتقل فن الحكي من كونه هواية عفوية إلى مسار تدريبي منظم، حيث قاد عقرباوي ورفاقه ورشاً تدريبية مكثفة ضمن الملتقى، علّم فيها الشباب كيف يجمعون القصص من صدور كبار السن، وكيف يعيدون صياغتها وسردها بأسلوب درامي آسر، محولاً الحكاية إلى جسر يربط الأجيال، بحيث ساهم “ملتقى حكايا” في خلق شبكة من الحكواتيين الذين يجوبون المدارس والمراكز الثقافية، ليصبح بذلك الأب الروحي لهذه الحركة التي ضمنت ألا تدفن الحكايات بموت أصحابها.
برحيل حمزة عقرباوي، تفقد فلسطين، قامة بحثية وميدانية نادرة، رجلاً آمن بأن حراسة الأرض لا تكون فقط بالسلاح، بل بالمعرفة، وبالمشي عليها، وبحفظ حكايات أهلها من النسيان.. ورغم رحيله، سيظل صدى صوته وهو يروي سيرة البلاد يتردد في جنبات الجبال التي أحبها ومشى عليها طويلاً.
