اخر الاخبار

حول الحكم والحساب وفق منهج الله

لقد شرع ﷲ سبحانه في آيات قرآنه تشريعًا يمنح الناس جميعًا حرية العقيدة، ومنح ﷲ الإنسان حرية الاختيار: الإيمان به أو الكفر به، واختص لنفسه وحده الحكم على المؤمن بأعماله، فإن صلحت يدخله جنات النعيم، ويحكم وحده على الكافر بأفعاله بأن يُلقى في نار الجحيم.

وقد أكد قول ﷲ سبحانه حق الإنسان في حرية مطلقة لاختيار عقيدته ويتحمل وحده ذنبه عند ﷲ يوم الحساب، في قوله تعالى: ﴿وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ (الكهف: 29)

ولم يشرّع ﷲ للناس حق محاسبة بعضهم على عقائد غيرهم، بل اختص ﷲ وحده بالحكم على الناس يوم القيامة، حيث يقول سبحانه:

﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُوا۟ وَٱلَّذِينَ هَادُوا۟ وَٱلصَّـٰبِـِٔينَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ وَٱلْمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُوٓا۟ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدٌ﴾ .. (الحج: 17)

  • الإيمان والكفر والتبليغ

وبتلك الآية حسم ﷲ سبحانه قضية الإيمان والكفر، بأن جعل الناس أحرارًا في عقائدهم وإيمانهم، كما أن ﷲ سبحانه لم يُعيّن وكلاء عنه في الأرض يراقبون الناس على أفكارهم وعقائدهم.

ولذلك عرف رسوله عليه السلام في خطاب التكليف، ليُبلّغ الناس آياته، ويشرح لهم مقاصدها، ويتلو عليهم كتابه. وتلك كانت كل مهمته كما أمره ﷲ، ولذلك خاطب ﷲ رسوله بقوله: ﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ۖ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ۚ وَمَآ أَرْسَلْنَـٰكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ (الإسراء: 54)

  • عقاب المرتد عند ﷲ

وقد ذكر القرآن حكم ﷲ في الذين يرتدون عن الإسلام، بقوله سبحانه: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِۦ فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍۢ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُۥ﴾(المائدة: 54) .. وقال ﷲ سبحانه: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْـَٔاخِرَةِ ۖ وَأُو۟لَـٰٓئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ﴾ (البقرة: 217)

  • الحكم لله وحده

يبين الله للناس أن قضية الردة والكفر به، قضيةٌ يحكم فيها الله وحده على المرتد والكافر والملحد يوم الحساب. ولم تذكر آيات القرآن الكريم نصًّا صريحًا بأن الله أذن لشيوخ الدين بحق الحكم على الكافر والمرتد في الحياة الدنيا.

وبما أن قضية الإيمان والإلحاد والكفر بالله، حقٌ منحه الله للإنسان بحريةٍ مطلقة في الإيمان به أو الكفر، وأن الإنسان سيحاسب على قراره يوم القيامة، فقد اختص الله لنفسه وحده الحكم عليهم؛ لأن الله سبحانه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم مسبقًا عن الإنسان قبل ولادته، هل سيكون مؤمنًا أو كافرًا. لذلك، لم يُعْطِ الله للرسل أو الأنبياء حق محاكمة الناس على عقائدهم وأفكارهم وقناعاتهم.

  • الالتزام بشريعة القرآن

ومن أجل ذلك، يتطلب من المسلم الالتزام الكامل بكل الإجلال والتقديس لحق الله وحده في الحكم على الناس في قضية الإيمان به، والكفر، والإلحاد.

وما يحدث اليوم من تعارض بين شيوخ الدين وغيرهم من المفكرين، فإن سببه أن شيوخ الدين لم يلتزموا بشريعة القرآن، المرجعية الوحيدة لدين الإسلام، ولا مرجعية غيرها.

ولذلك أمر الله المسلمين بقوله:﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: 103)

ولو اتبع المسلمون كتاب الله، وطبقوا شرعته ومنهاجه، لما حدثت الاختلافات في الأحكام المتناقضة مع شريعة الله في قرآنه، وما تفرّقوا في أحكامهم.

ولا بد من الفصل بين حكم الله الذي اختص به وحده، والشريعة الإلهية التي وضعها للناس ليتبعوها في أحكامهم في الدنيا، بما جاء في كتابه المبين.

فهل كلّف الله سبحانه وكلاء عنه في الأرض من الرسل أو الأنبياء أو شيوخ الدين يراقبون الناس في أفكارهم وقناعاتهم وعقائدهم، ويحاسبونهم ويعاقبونهم على ما آمنوا به؟

ألا يُعتَبر ذلك الموقف تحدّيًا لحكم الله في كتابه المبين، بأن الصلاحية لله وحده بمحاكمة المؤمنين والكافرين يوم القيامة؟

  • الشيوخ ومحاكمة الناس

فمن يا تُرى يملك حق إعطاء شيوخ الدين محاكمة الناس على عقائدهم؟

وهل استندوا إلى شريعة الله في قرآنه؟ أم يتسلطون على الناس بمصادرة حق حرية الاعتقاد وحرية التفكر والتدبر في كتاب الله، الذي أمر عباده بأن يتفكروا في آياته ويتخذوا مقاصدها مرشدًا لهم في حياتهم الدنيا، حتى يعم العدل بين الناس وحقهم في حرية التفكير لمعرفة طريق الحق الذي يعينهم على الابتعاد عن ارتكاب المعاصي والذنوب في الحياة الدنيا، ليأمنوا حساب يوم القيامة.

فمن يا ترى أعطى حق الله لشيوخ الدين لحساب خلق الله على أفكارهم وعقائدهم ومحاكمتهم على قناعاتهم؟

هل المسلمون يعيشون في عصور محاكم التفتيش في عقائد الناس، كما حدث في القرن الثالث عشر في أوروبا، وسيطرة الكنيسة على أفكار الناس، وإصدار الأحكام الجائرة عليهم؟!

فليعلم الناس جميعًا أن الإسلام حرّر العقل من سيطرة السلطة الدينية على عقولهم، وأمر الله سبحانه الناس بحرية التفكير والتدبر في شريعته ومنهاجه دون وكيل منه أو سلطة غاشمة، استحلّت لنفسها باسم الدين حق الله في الحكم على أفكار الناس ومحاسبتهم على عقائدهم. فهل استمد شيوخ الدين سلطتهم من الشريعة الإلهية في القرآن الكريم؟ أم اغتصبوا حق الله في الحكم على خلقه؟

فالمسلم يشترط في إيمانه، بعد الله إلهًا واحدًا لا شريك له، أن يؤمن بكتاب الله القرآن الكريم الذي أنزله على رسوله عليه السلام، وبما تضمنته آياته من شريعة ومنهاج حياة للناس جميعًا.

  • الروايات والآيات

أم اتخذ شيوخ الدين روايات البشر لتحل محل شريعة خالق البشر، وبها يحكمون، وبها يمارسون سلطاتهم الدينية، ويضطهدون من يبحث عن طريق الحق والنور الذي نزّله الله على رسوله، ليضيء لهم طريق الحق المستقيم في الحياة، بتحرير عقولهم من أية مؤثرات لآراء الفقهاء وأصحاب الروايات وتراث السابقين؟

  • اختلاف المفاهيم

لقد بيّن الله في كتابه المبين اختلاف المفاهيم في مختلف العصور، ولم يُلزم الله سبحانه الناس بفكر من سبقهم من الأمم السابقة؛ بل أمرهم أن يتفكروا في كل عصر ويستنبطوا من آيات قرآنه ما يُلبّي متطلبات مجتمعاتهم في تطبيق شريعة الله ومنهاجه، ويحصّنهم بما تستنتجه عقولهم في عصرهم من الوقوع في معاصي من سبقهم من الأمم.

كما قال سبحانه:﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(البقرة: 134)

كما أن كثيرًا من شيوخ الدين يتحدثون عن ثوابت الدين دون تحديد أمين وصادق مع رسالة الإسلام؛ ولذلك فإن ثوابت الدين هي أربعة عناصر:

1. الإيمان بالله إلهًا واحدًا لا شريك له، يحيي ويميت، له ملك السماوات والأرض، وهو على كل شيء قدير.

2. الإيمان بكتاب الله وما يتضمنه من شرعة ومنهاج، وعِبرٍ في قصص الأمم السابقين، وعظات ووصايا للناس، وحساب الناس يوم البعث في كتابه المبين.

3. الإيمان برسول الله محمد عليه السلام، خاتم الأنبياء والمرسلين، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله جميعًا، لا نفرّق بين أحد من رسله، والإيمان باليوم الآخر، والقضاء والقدر.

4. تأدية العبادات من أداء الصلاة، والزكاة، وصيام رمضان، وحج بيت الله الحرام.

تلك هي ثوابت الدين التي لا تخضع للتبديل أو التحريف أو التزوير من أي إنسان كان، والتي يجب على المسلم أن يؤمن بها إيمانًا صادقًا ويمارسها سلوكًا، كما وردت في المنهاج الإلهي في القرآن الكريم.

  • تدبر القرآن الكريم

ألم يأمر الله عباده باتباع كتابه، والتدبر في آياته، والتفكر في كونه ومخلوقاته؟

حيث يقول سبحانه تأكيدًا لدعوة الناس للتفكير: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (ص: 29)

  • التعاون على البر والتقوى

فريضةٌ من الله على الناس جميعًا أن يتدبروا في آياته، ويتعرفوا على حكمته ومراده لمنفعة الناس جميعًا، ويتبعوا شرعته ومنهاجه ليعيشوا حياة طيبة، يسودها الرحمة والعدل وحرية التفكر والاعتقاد والإحسان، ليتحقق الأمن والسلام للإنسان في كل المجتمعات البشرية، ويتعاونوا على البر والتقوى، ويحرّموا بينهم العدوان، ويحترموا حق الإنسان في الحياة، وحمايته من التعرض للاستيلاء على أمواله وممتلكاته.

فرحمة الله بالإنسان، والرعاية الإلهية، بما فرض في آيات القرآن من تشريعات، تحقق مصلحة الإنسان وسعادته في الدنيا، ليحيا حياة طيبة في ظل الأمن والسلام.

  • اتباع شريعة الله

كل ما سبق، بشأن حكم الله وحده على الناس على عقائدهم يوم القيامة، كما جاء في الآيات المذكورة أعلاه، هو حكم أمر الله الناس أن يتبعوه.

وقد حذر الله سبحانه من لا يطيعه فيما حكم به في شريعته، في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة: 44)