اخر الاخبار

رغم محاولاتها المتوقعة استثمار عملية القدس، إسرائيل لن تكسر عزلتها.. د. جمال خالد الفاضي

تواصل إسرائيل حرب الإبادة في غزة بلا هوادة، وهي حرب لم تقتصر على استهداف المقاومة أو البنى التحتية فحسب، بل امتدت لتطال الحياة ذاتها، حيث لم يعد للغزيين ماء ولا كهرباء ولا مأوى ولا ملاذ، في مشهد أقرب ما يكون إلى محاولة منهجية لإفراغ الأرض من سكانها ودفعهم إلى التهجير القسري. وفي الوقت نفسه، تتحرك إسرائيل في الضفة الغربية بخطوات حثيثة نحو استكمال مشروع الضم، عبر تكثيف الاستيطان وتقسيم المدن الفلسطينية وشرعنة البؤر العشوائية، بل والعودة إلى مناطق سبق أن انسحبت منها عام 2005 في إطار خطة فك الارتباط، لتثبت أن ما يجري ليس مجرد سياسة أمنية ظرفية، بل استراتيجية مدروسة لإعادة هندسة الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينية بما يخدم مشروعها التوسعي. 

وفي ظل هذه السياسات القمعية، جاءت عملية اليوم التي أسفرت عن مقتل خمسة إسرائيليين لتعيد طرح سؤال قديم جديد: هل ستنجح إسرائيل في استثمار دماء قتلاها لإعادة إنتاج خطاب المظلومية الذي طالما أتقنت استخدامه أمام العالم، فتظهر مرة أخرى بمظهر الضحية المستهدفة التي لا تفعل سوى الدفاع عن نفسها؟

لكنّ الواقع تغيّر كثيرًا عمّا كان عليه في العقود الماضية، فالإبادة الجماعية في غزة لم تعد مجرد رواية فلسطينية تُروى، بل باتت حقيقة دامغة يشاهدها العالم لحظة بلحظة عبر شاشات التلفزة ومنصات التواصل الاجتماعي، موثقة بصور الأطفال تحت الركام وشهادات المنظمات الحقوقية الدولية التي وصفت ما يجري بأنه جرائم حرب وإبادة جماعية. لم يعد ممكنًا للإسرائيلي أن يرتدي قناع الضحية وهو يحمل في يده أدوات القتل الجماعي، ولم يعد المجتمع الدولي مهيأً لتصديق ادعاء “الدفاع المشروع” بينما تتكشف أمامه وقائع الاستيطان والضم والقصف اليومي للمدنيين. بل على العكس، باتت دول كبرى تتحرك باتجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينية، والرأي العام الغربي يشهد انقلابًا غير مسبوق على الرواية الإسرائيلية، فيما تتزايد العزلة السياسية والأخلاقية لتل أبيب يومًا بعد يوم.

صحيح أن الحكومة الإسرائيلية ستجد في عملية اليوم في منطقة القدس مادة دعائية لتجييش الداخل وإعادة توحيد صفوفه خلف خطاب أمني يبرر استمرار الحرب في غزة وتشديد القبضة العسكرية في الضفة الغربية، لكن هذا الاستثمار سيبقى محصورًا في الداخل الإسرائيلي أكثر من قدرته على إقناع العالم. فالعالم اليوم يرى بوضوح الفارق الهائل بين قوة عسكرية نووية مدججة بالدعم الأمريكي وبين شعب أعزل يواجه الاحتلال بأبسط الأدوات. 

وهكذا، فإن محاولات إسرائيل للعودة إلى موقع “المظلومية” قد توفر لها بعض المكاسب الوقتية في خطابها الداخلي، لكنها لن تغير من صورتها كجلاد يمارس الإبادة والتطهير العرقي، ولن توقف الانزلاق المتسارع نحو العزلة الدولية. لقد انقلبت المعادلة: من كان يُنظر إليه يومًا كضحية، أصبح يُدان اليوم كجلاد، وكلما تمادت إسرائيل في العنف، ازدادت صورتها قتامة وتقلصت فرصها في استعطاف العالم أو استعادة تعاطفه.

وفي المقابل، تقع على الفلسطينيين مسؤولية استثمار هذا التحول الدولي غير المسبوق، والتمسك بمطلب وقف الحرب، وتفعيل أدوات الدبلوماسية الدولية، بما يمنع إسرائيل من إعادة تدوير صورتها، ويحوّل لحظة التعاطف العالمي إلى فرصة تاريخية لتقريب الفلسطينيين من انتزاع حقوقهم المشروعة وتثبيت دولتهم في الوعي والشرعية الدولية. وهكذا، فإن العملية الأخيرة، بدل أن تفتح لإسرائيل نافذة للهروب من عزلتها، قد تكون محطة جديدة تؤكد أن صورة “المظلومية” التي طالما احتمت بها لم تعد صالحة في زمن بات العالم فيه يرى بوضوح وجه الجلاد.