اخر الاخبار

سعاد خليل: قراءة لكتاب Il Fronte Russo – الجبهة الروسية Luca Steinmann للكاتب الإيطالي لوكا ستيىنمان

يُعد كتاب “Il Fronte Russo” الجبهة الروسية للصحفي الإيطالي لوكا ستاينمان مثالًا بارزًا للأدب الصحفي الميداني، حيث يقدم تجربة مباشرة وفريدة من نوعها لتغطية الحرب الروسية–الأوكرانية. يتيح الكتاب للقراء الغوص داخل صفوف الجنود الروس، ومتابعة الأحداث كما يراها المراسل شخصيًا، بعيدًا عن الصور النمطية التي تقدمها وسائل الإعلام التقليدية.
يتجاوز ستاينمان في هذا الكتاب الإطار التقليدي لتغطية الحروب، من خلال رصد المشاهد اليومية والتفاعلات الإنسانية داخل الميدان. فهو يعكس الواقع العسكري والإنساني على حد سواء، مقدّمًا تحليلاً دقيقًا لتأثير الصراع على الجنود والمجتمع المدني. كما يسعى الكتاب إلى تقديم رؤية متوازنة، تراعي الحيادية والموضوعية، مع الحفاظ على مصداقية المعلومات والتفاصيل الميدانية. ومن خلال أسلوبه في السرد الصحفي يعتمد ستاينمان على أسلوب سردي حي وواقعي، حيث ينقل للقارئ اللحظات الحرجة في الميدان: تبادل إطلاق النار، عمليات التفتيش، الصعوبات في التنقل بين النقاط العسكرية، والضغط النفسي الذي يعيشه الجنود يوميًا. يصف الكاتب تضاريس ساحة القتال، طبيعة المعدات العسكرية، والتحركات التكتيكية للوحدات، بما يجعل القارئ يشعر وكأنه يعيش الحدث بنفسه.
ما اعجبني في هذا الكتاب الذي قراته باللغتين، هو ما يميزه في  السرد ، الدقة والواقعية، مع توظيف التفاصيل الصغيرة مثل ملاحظات حول الروتين اليومي للجنود، تصرفاتهم أثناء فترات الانتظار، وتفاعلاتهم مع الضباط والمعدات. هذا الأسلوب يجعل الكتاب أكثر من مجرد تقرير صحفي؛ إنه تجربة ميدانية حية.
على الرغم من الطابع العسكري المكثف، يقدم الكتاب بعدًا إنسانيًا عميقًا. يسرد الكاتب مشاعر الجنود من خوف وقلق، إلى حنينهم للوطن وأسرهم، كما يعرض كيفية تعاملهم مع الضغوط النفسية اليومية.

كذلك علاقات الدعم المتبادلة بين الجنود، صراعاتهم الداخلية، وتجاربهم الفردية التي تعكس واقع الحرب على المستوى النفسي والاجتماعي.
تظهر من خلال هذه القصص الشخصية صعوبة التكيف مع المواقف القاسية، وكيف تؤثر الحرب على التفكير والسلوك البشري، مما يمنح الكتاب قيمة معرفية تتجاوز مجرد السرد العسكري.
في هذا الكتاب التي تتجاوز صفحاته 350 صفحة يقول الكاتب  في مقدمته :

وأنــا أكتــب هــذه الكلمــات، تطفــو في داخلي ذكريـات، وأحاسـيس وعواطـف كنـت أخفيهـا في أحـد الأمكنــة، دون أن أعــي قــط بوجودهــا. يبــدو وكأن التوتــرات والمخــاوف والضغــوط التــي لم أنتبــه إليهــا في أثنـاء المعـارك المسـلحة تحـت القصـف، تنفجـر بغتـةً بداخلي. هنـاك، في سـاحات المعركـة، باسـتثناء مناسـبة واحــدة، لم أستشــعر خــوفي عــلى الإطـلاق.
دائما مـا أعـد نفـسي جسمـاً غريبًـا عـن كل مـا رأيتـه؛ مراقبًـا خارجيًّـا ينقـل مشـاهد المـوت واليـأس المحيطـة بـه، متيقنًـا أنهـا لـن تمسسـني أبـدًا.
منحنـي هـذا النهـج القـوة للبقـاء سـبعة أشـهر عـلى الجبهـة، تتخللهـا فترة استراحة، والاسـتمرار في دفـع نفـي بمحـاذاة خطـوط النيـران الأماميـة، دون أن يُمثّل ذلـك عبئًـا عـلى كاهلي. الآن، وأنـا أكتـب مـن بيتـي في أمـان، أعــاود رؤيــة المســارح العســكرية التـي شــهدتها مــن منظــور آخــر. قــراءة يوميــاتي، والتنقيــب بــين الذكريـات يشـبهان مراقبـة تلـك المشـاهد مـن الأعلى: أرى نفـي هنـاك، بـن الخنـادق، وسـط أنقـاض المـدن المدمــرة، كأننــي الآن فقــط أكتشــف المخاطــر الجســيمة التــي واجهتهــا، والتــي لم أدركهــا في ذلــك الوقــت.
جيــد أن تسـيـر الأمــور على هــذا المنــوال، وأتمنــى أن تســتمر كذلــك عندمــا أواصــل سرد هــذه الحــرب الطويلــة التــي لا تــزال تُغـرّ العــالم إلى الأبــد. لم أكــن لأفكّــر قــط أنهــا ســتتدهور إلى هــذا الحــد عندمــا وطأة قدمــي أراضي دونبــاس في الثامــن عــشر مــن فبرايــر عــام 2022م، برفقــة جابرييــل ميكالتــي، حيــث يســيطر عليهــا الانفصاليــون الموالــون لروســيا، وظننــت أننــي ســأبقى هنــاك عــشرة أيــام تقريبًــا. مــا كان مـن المفـروض أن تتحـول رحلـة قصيـرة إلى حـرب طويلـة في قلـب أوروبـا، وضعـت بشـكلٍ قاطـع كلمـة «النهايــة» لحلــم عــالم مــا بعــد التاريــخ قائــم عــلى الســلام، وتضبطــه الدبلوماســية.
حــدث رفيــع تاريخــي جعلنــي تقريبًــا حتــى الآن الشــاهد الوحيــد غــير الــروسّي «خلــف خطــوط العـدو»، كـكُاتـب. المراسـل بيـن جنـود بوتـن الـذي رُغــم ذلــك ينــشر في وســائل إعـلام غربيــة، وينتمــي – إلى عــالم انحــاز بجملتــه إلى أوكرانيــا.
موقــف فريــد حســاس يلزمنــي أن أصبــح أشــد دقـةً وانضباطًــا في روايتــي قــدر الإمــكان، فقــط للبقــاء عـلـى قيــد الحيــاة. خـلال هــذا العــام، لم تنقصنــي أي تضييقيات مـن جانبـي، لكننـي لم أتعـرض للرقابـة عـلى الإطـلاق. وعــلى النقيــض، وجــدتُ ناشريــن منحــوني تفويضًـا مطلقًـا، فـكل ميـزة، أو خلـل في عمـلي يُنسـب إلّي وحـدي فحســب.
خـلال هــذا العــام، وفي هــذه المرحلــة الأولى مــن الحــرب اســتطعتُ أن أرى أيضًــا إمكانيــة أن يعمــل صحفــي أجنبــي عــلى الجبهــة الروســية، دون حاجــة إلى تقديــم أي نــوع مــن الدعايــة، وآمــل أن أســتطيع مواصلـة ذلــك في المســتقبل أيضًــا.
وبصفتــي شــاهدًا عـلـى الجبهــة الروســية، يُمكــن انتقــاد الموقــف الــذي يتبنّــاه كتــابي بســهولة شــديدة، ســواء مــن الجبهــة الروســية؛ لأنهــم أرادوا نســخة دعائيـة، أم مـن الجانـب الغـربي؛ لأنهـم توقعـوا نسـخة أشـد أطلسـيّةً. وكـوني مراسـلًا يعمـل حرفيًّـا بـن نارين في الميـدان، لم أسـتطع إلا أن أروي الواقـع الـذي رأيتـه، ولمسـته بيـدي. وبكتابتـي لهـذا الكتـاب، كنـت واعيًـا أن الناريـن لهـا القـدرة عـلى التحـوّل إلى أحـكام منحـازة.
هذه مقدمة كتابه الذي ترجم الي اللغة العربية عن طريق دار النشر السعودية Yasturoon
 في هذا الكتاب  ستاينمان يحافظ على حيادية واضحة ، متجنبًا التحيز لأي طرف. يعتمد على الوقائع والملاحظات المباشرة، ويقارن بين الروايات الإعلامية المختلفة، موضحًا الفجوة بين التقارير الرسمية والواقع الميداني. هذا النهج يعزز مصداقية الكتاب كمرجع أكاديمي وصحفي، ويمكن الاعتماد عليه في الدراسات العسكرية والتحليل السياسي.
الكتاب غني بالتفاصيل الميدانية الدقيقة، بدءًا من وصف المواقع العسكرية، المعدات، والتحركات التكتيكية، وصولًا إلى الحياة اليومية للجنود داخل الميدان. يقدم ستاينمان صورًا دقيقة عن التضاريس، الروتين اليومي، صعوبة الإمدادات، والتحديات اللوجستية، مما يمنح القارئ إحساسًا بالواقع المعقد للحرب ويظهر القرارات الصعبة التي يتخذها القادة والجنود.
كما يتناول الكتاب البعد السياسي والاجتماعي للصراع، حيث يوضح دوافع الجنود، توجيهات القيادات، وتأثير الحرب على المدنيين. حيث يقدم ستاينمان أمثلة على التفاعلات بين الجيش والمجتمع المدني، كما يعرض تأثير الحرب على الثقافة العسكرية الروسية، على العلاقات بين الجنود، وعلى بيئة المدنيين التي تتغير بفعل النزاع. هذا التحليل يجعل الكتاب ليس مجرد وثيقة عن الحرب، بل دراسة متعددة الأبعاد للصراع.
ويوضح أهمية الإعلام الميداني في تقديم صورة دقيقة للأحداث، بعيدًا عن التزييف أو التلاعب بالدعاية. يعرض ستاينمان الفرق بين تقارير الإعلام الرسمي وما يراه المراسلون على الأرض، مما يعكس دور الصحافة الحقيقية في كشف الواقع وتقديمه بشكل شفاف.
يُعد كتاب “Il Fronte Russo” الجبهة الروسية إضافة فريدة للأدب الصحفي الميداني، حيث يقدم سردًا حيًا ومتوازنًا يجمع بين الواقعية، التحليل، والجانب الإنساني. يعطي القارئ فرصة لفهم الحرب الروسية–الأوكرانية من الداخل، ويعكس تأثير الصراع على الجنود والمجتمع المدني.
الكتاب يمثل نموذجًا للأدب الصحفي الميداني الذي يجمع بين الدقة في السرد، التوثيق الواقعي، والتحليل النفسي والسياسي والاجتماعي. إنه مصدر مهم للباحثين، الصحفيين، والمهتمين بالشؤون العسكرية والسياسية، كما يقدم تجربة فريدة لفهم الحروب الحديثة من منظور مباشر وموثوق.
المؤلف، لوكا ستاينمانهو صحفي وكاتب مستقل يعمل مع عدة وسائل إعلام إيطالية بارزة مثل La Repubblica، La7 و Limes، ويشارك بانتظام في برامج تلفزيونية للتعليق على الشؤون الدولية. حصل على عدة جوائز، منها Premiolino، أحد أبرز الجوائز الصحفية الإيطالية، تقديراً لتغطيته الميدانية للأحداث الدولية.
لستاينمان خبرة واسعة في مناطق الصراع، حيث زار سوريا، مصر، لبنان ودول أخرى في المنطقة، ويطمح لتعميق معرفته بليبيا من خلال زيارات ميدانية مستقبلية. كما أنه عضو في جمعية الصحافة الأجنبية في إيطاليا.
بالإضافة إلى الصحافة، هو مؤلف لكتابين من منشورات Rizzoli:
– Fronte Russo (الذي مترجم إلى عدة لغات بما في ذلك العربية)
– Vite al Fronte