صحيفة الشرق الأوسط – «بيروت رغم كل شيء»… قصة مدينة لا تموت

ثلاثة عناصر رئيسية اجتمعت لتروي حكاية مدينة بيروت عبر تاريخها الحديث، في كتاب حمل عنوان: «بيروت رغم كل شيء» (Beirut malgré tout)»… حاكها الثلاثي: صوفي غينيون، وكلوي دومات، وكمال حكيم، فوضعوا محتوى توثيقياً لحكاية مصوّرة باللغة الفرنسية. عملت الشابتان مراسلتين صحافيتين في بيروت لوسائل إعلام فرنسية، في حين عمل كمال حكيم أستاذاً بجامعة «ألبا» ومؤلفاً ورسَّام كتب صور متحرّكة.
اختار الثلاثيُّ طبيبَ الأطفال الدكتور روبير صاصي مرجعيةً لهم، وهو أول من استحدث في مستشفى حكومي قسماً لمعالجة الأطفال مجاناً. لماذا روبير؟ تجيب صوفي غينيون لصحيفة «الشرق الأوسط»: «لقد عايش تاريخ بيروت الحديث بأكمله. شهد على حقبات الحرب كما السِّلم، وانتقاله للإقامة في شرق بيروت بعد سكنه في غربها، زوّده بخلفية غنية عن تاريخها».
أما فكرة الكتاب، فانطلقت من ريبورتاج صحافي كانت قد أعدَّته الشابتان سابقاً، وقرَّر الثلاثة تحويله كتاباً مصوّراً فيما بعد.
توضح صوفي في سياق حديثها: «التقينا مع الدكتور صاصي خلال تنفيذنا تقريراً لقناة (آر تي) الفرنسية. وحاورنا كثيراً من الأطباء لنقف على تجاربهم الشخصية إثر انفجار بيروت، فوجدنا مع الدكتور صاصي كل ما نحتاجه لروايتنا عن تاريخ بيروت المعاصر». هنا يُعلّق كمال حكيم قائلاً لـ«الشرق الأوسط»: «كان الدكتور صاصي بمثابة جسر تواصل بين الأجيال. فمشواره الطَّويل في مهنة الطب أثرى فكره وذاكرته. سبق أن اهتم بعلاج أطفال غزة في ظل الحروب السابقة، وله باع طويلة مع أطفال لبنان. فهو صاحب مؤسسة (أسامي) التي تُعنى بعلاج الأطفال مجاناً. وبالنسبة إلينا، كان يمثّل وصفة تاريخية متكاملة تتعلّق ببيروت».
يتألّف كتاب «بيروت رغم كل شيء» من 4 فصول. الأول يتناول حقبة الحرب الأهلية حتى عام 1990. ويتحدَّث الثاني عن مرحلة السَّلام التي سادت البلاد من عام 1990 حتى 2019، أما الفصلان الثالث والرابع فيتناولان اندلاع الثورة، والمرحلة «الخشبية» التي تلت انفجار المرفأ.
لماذا هذا العنوان؟ ترد صوفي غينيون: «لأن بيروت مدينة لا تشبه غيرها. فقد شهدت مخاضات هائلة وأزمات قاسية، بيد أنها بقيت منتصبة. فهي مدينة مقاومة بطبيعتها، ورغبنا في إبراز خصوصيتها المرتبطة بحبّها للحياة».
تكفّلت صوفي وكلوي إعداد محتوى الكتاب، فيما تولَّى كمال مهمة تجسيده بصرياً، فرسم وجوه الأبطال الثلاثة (صوفي، وكلوي، وكمال) إلى جانب الضيف الفخري الدكتور صاصي. كما حرص على نقل مشاهد من شوارع بيروت وأحيائها التراثية، وتطرَّق إلى شخصيات لعبت دوراً في إعادة إعمار المدينة، بينهم الرئيس الراحل رفيق الحريري. نقل كمال الحياة البيروتية بتفاصيلها، راسماً مشاهد الحرب والسَّلام بإتقان، وتضمَّنت رسوماته لوحات بأحجام متفاوتة.
من بين تلك الرسومات، لوحات تتناول التعددية الطائفية، وانفجار إهراءات المرفأ، وأجواء السَّهر، ومظاهرات «ثورة تشرين» مع التركيز على عبارة «كِلُّن يعني كِلُّن».
اختار كمال حكيم خلفية هادئة لسرد محتوى صاخب في غالبيته، وتمسَّك بألوان فاهية في رسم أحداثه، وغلب اللون الأبيض على صفحات كتابٍ لا يخلو من محطات سوداء.
وعن محتوى الكتاب، تقول صوفي: «أردنا محتوى شاملاً وبسيطاً في آن. يفهمه الجمهور غير اللبناني ويستوعبه. اجتهدنا كثيراً وحدَّدنا الحقبات التي سنتناولها كي لا نتوسَّع بشكل مبالغ فيه».
في حفل توقيع الكتاب، أُقيم بالتوازي معرض لرسومات منتقاة من صفحاته الـ138. من بين ما استوقف الزائرين لوحةٌ تُجسِّد الطبيب صاصي في مستشفى الكرنتينا الحكومي، رسمها كمال قبل انفجار بيروت وبعده. كما عُرضت لوحة أخرى، تجمع رجال الدين في لبنان من مختلف الطوائف، ورسومات لميليشيات مسلحة، وأخرى للفلسطينيين، و«قبضة الثورة» الشهيرة، إلى جانب لوحة انفجار المرفأ التي يسودها اللون الأحمر، دلالة على الضحايا. كذلك تضمَّن المعرض مشاهد من بيروت الليل، وكورنيش المنارة… وغيرها.
استغرق التحضير للكتاب نحو 9 أشهر، يَعدّها كمال حكيم مدة قصيرة مقارنة بحجم العمل. أما الغصَّة الكبرى، فيلخّصها قائلاً: «عندما انتهينا من إنجاز الكتاب وطباعته، كنَّا نرغب في الاحتفال به مع الدكتور صاصي. بيد أن الموت غيّبه، ولم يتسنَّ لنا الاستمتاع معه في هذه اللحظات. وبعدها مباشرة انفجرت الأوضاع في جنوب لبنان وامتدّت إلى بيروت. لم يكن من السَّهل إنجاز هذه القصة المصوَّرة، وبعد تأجيل إطلاقها بسبب الحرب الأخيرة، قرَّرنا إصدارها اليوم ضمن معرض رسم خاص بها».
وتختم صوفي غينيون حديثها: «لقد روينا حكاية بيروت بكل تعقيداتها وسحرها وجمالها. إنها مدينة استثنائية، قادرة على تجاوز الصِّعاب وتخطِّيها. جراحها مطبوعة على حيطان شوارعها، بيد أن حبَّ الحياة يخيِّم عليها».
من المتوقّع أن يُبادر الثلاثي صوفي، وكلوي، وكمال، إلى ترجمة «بيروت رغم كل شيء» إلى اللغة العربية قريباً. ويعلّق حكيم: «من الضروري جداً أن يطَّلع أبناء لبنان من مختلف الشرائح الاجتماعية على هذا العمل، واللغة العربية ستُسهِّل انتشاره ووصوله إلى الجميع من دون شك».