اخر الاخبار

علي الشرفاء .. ضمير الأمة وصوتُ العقل في زمن الغوغاء

في لقاء فكري وثقافي لا يُنسى، جمعني حديث شيق مع المفكر العربي التنويري الأستاذ الشيخ علي الشرفاء الحمادي، أحد رموز دولة الإمارات الشقيقة، أثناء زيارة كريمة ودعوة نبيلة من معاليه إلى دولة الإمارات العربية المتحدة وبصحبة الأخ الكريم والصديق العزيز الإعلامي مجدي طنطاوي، كان لقاؤنا به تجربة فكرية وروحية استثنائية، فقد لمست فيه صدق المشاعر ونبل الأخلاق ونقاء الرسالة، والإصرار على حمل لواء رسالة السلام والمحبة إلى كل البشرية، دون تمييز بين دين أو عرق أو جنس .

لقد وجدته رجلاً يحمل همّ الإنسانية على كتفيه، ويمتلك رؤية عميقة تؤمن بأن الخلاص لا يأتي إلا من خلال التصالح مع الله والتسامح مع النفس، وإقامة الرحمة والعدل بين البشر، وبأن الناس جميعًا متساوون أمام خالقهم، لا فرق بين عربي ولا أعجمي، يهودي أو أممي، بين الأديان السماوية أو الوضعية، إلا بالتقوى، كما جاء في القرآن الكريم :

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].

وهو ذات المعنى الذي أكّده السيد المسيح عندما قال : “لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجدوا أباكم الذي في السماوات” (متى 5:16).

فالإيمان ليس بالمظهر أو الطقوس فقط، بل بالجوهر الذي يُترجم إلى سلوك يُنير طريق الآخرين. ومن هنا يرى أن الإنسان أولًا، لا للطائفية ولا للتكفير.

ركز المفكر التنويري علي الشرفاء على أهمية تحرير الدين من براثن الاستغلال السياسي والطائفي، ورفضه المطلق لفكرة التكفير أو الهرطقة واحتكار الحقيقة باسم الدين. فقد ذكر قول القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [المائدة: 69].

الدين في جوهره علاقة شخصية بين الإنسان وربه، ولا يملك أحد أن ينصّب نفسه حَكَمًا على إيمان الآخرين. فالحساب عند الله وحده، مستشهدًا بقوله تعالى: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ [الغاشية: 25-26].

وفي الكتاب المقدس، نقرأ: “لا تدينوا لكي لا تُدانوا. لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تُدانون” (متى 7:1-2).

وهذا هو جوهر رسالته: لا تحكم على أحد، بل كن نورًا وملحًا للمجتمع. الدين أخلاق ومعاملة ورقي وقبول الآخر.

ما شدّني في فكر الأستاذ علي الشرفاء هو تأكيده المتكرر على أن الدين الحقيقي يُقاس بالأعمال، لا بالشعارات أو المظاهر. فالعبادات والطقوس وسيلة للتقرب إلى الله، لكن الغاية الكبرى هي صلاح الإنسان ونشر الخير.

وقد عبّر عن ذلك السيد المسيح بقوله: “من ثمارهم تعرفونهم” (متى 7:16)، أي أن ما يميّز الإنسان هو سلوكه، لا لسانه.

وفي القرآن الكريم: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83].

السلام والحب هو جوهر الرسالات السماوية.

لقد فهم الأستاذ الشرفاء الحمادي الدين كرسالة للسلام، لا للدمار. ففي عالمنا اليوم، حيث يُستغل الدين لتبرير العنف وسفك الدماء، يصر هذا المفكر على التذكير بأن القتل باسم الدين أو العقيدة جريمة، لا تمت للإيمان أو للإنسانية بصلة. فالله لم يأمر بالقتل، بل بالسلام، كما قال تعالى : ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32] وفي الإنجيل أيضًا، قال السيد المسيح : “طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون” (متى 5:9).

كما وجّه رسالة صريحة دعوة للتفكّر وليس للتكفير، وإعادة قراءة النصوص بدون مزايدات.

لم تكن كلمات المفكر علي الشرفاء مجرد مواعظ، بل دعوة صريحة لإعمال العقل، وتحرير النصوص من قيود التفسير الجامد والموروثات المتطرفة. فهو يدعو إلى قراءة القرآن الكريم قراءةً مقاصدية، تركز على الرحمة، والعدل، والحرية، والكرامة، كما دعا إليها السيد المسيح، حين قال: “تعرفون الحق، والحق يحرركم” (يوحنا 8:32).

خرجت من لقائي مع المفكر الجليل علي الشرفاء وأنا أحمل في قلبي طمأنينة وأملًا. لقد وجدت في هذا الرجل ضميرًا حيًّا، ورسالةً صادقة تدعو إلى احترام الإنسان، ونبذ الكراهية، والسعي لخير البشرية جمعاء. إن فكره دعوة للعودة إلى جوهر الدين، حيث الله محبة، وحيث لا إكراه في الدين، كما قال تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256] ، وقول الله لسيدنا موسى: “أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ. قَدْ جَعَلْتُ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ. الْبَرَكَةَ وَاللَّعْنَةَ. فَاخْتَرِ الْحَيَاةَ لِكَيْ تَحْيَا أَنْتَ وَنَسْلُكَ” (التثنية ٣٠: ١٩)

وقول أحد حواريي السيد المسيح في رسالته: “لأَنَّ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحِبَّ الْحَيَاةَ وَيَرَى أَيَّامًا صَالِحَةً، فَلْيَكْفُفْ لِسَانَهُ عَنِ الشَّرِّ وَشَفَتَيْهِ أَنْ تَتَكَلَّمَا بِالْمَكْرِ، لِيُعْرِضْ عَنِ الشَّرِّ وَيَصْنَعِ الْخَيْرَ، لِيَطْلُبِ السَّلاَمَ وَيَجِدَّ فِي أَثَرِهِ.” (١ بطرس ٣: ١٠، ١١)

كاتب المقال : الامين العام لمؤسسة رسالة السلام العالمية بالقاهرة