في سبتمبر: رصاصات إسرائيلية تجهض الدولة الفلسطينية.. د. جمال خالد الفاضي

الاغتيالات السياسية والأحداث الإرهابية الكبرى لا تُقاس فقط بوقعها المباشر، بل بما تخلقه من بيئة سياسية وإعلامية تسمح بإعادة صياغة المواقف والتحالفات. من هنا يبرز سؤال مهم: هل تستفيد إسرائيل من مثل هذه الأحداث ليس باعتبارها وقائع منفصلة، بل باعتبارها أدوات لضمان استمرار الحرب لأطول فترة ممكنة، ونسف مسارات التهدئة، وصولًا إلى تهيئة الظروف الملائمة لمشروع التهجير؟
لقد شكلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، نقطة تحول جوهرية في الخطاب الدولي، إذ جرى دمج الإسلام السياسي، والفلسطيني تحديدًا، في إطار “الإرهاب العالمي”. وفي هذا المناخ، نجحت إسرائيل في تسويق نفسها كجزء من التحالف الدولي ضد الإرهاب، الأمر الذي ضيق مساحة النظر إلى القضية الفلسطينية كقضية تحرر وحقوق، وأحالها إلى مجرد ملف نزاع وحقوق. هذا التوصيف أتاح لإسرائيل أن تقدم عملياتها ضد الفلسطينيين، بما فيها الاغتيالات، بوصفها خطوات “استباقية” في سياق مكافحة الإرهاب، لا كأفعال سياسية تستهدف تصفية قادة خصومها.
ليس جديداً عليها، فمنذ سبعينيات القرن الماضي، اتبعت إسرائيل منطق الإغتيال الاستباقي ضد القادة الفلسطينيين، وهو منطق سعت من خلاله لإغلاق أي مسار تفاوضي محتمل، ويكرّس مقولة “لا مفاوضات مع الإرهاب”. وفي ظل المناخ الدولي الذي تبلور بعد 11 سبتمبر، وجدت غطاءً واسعًا لمثل هذه السياسات دون مساءلة تُذكر.
وفي هذا السياق يمكن فهم وقراءة حادث اغتيال الناشط الأمريكي اليميني “تشارلي كيرك” في سبتمبر 2025، ليس فقط بوصفه حدثًا داخليًا أمريكيًا، بل من زاوية تأثيراته على الخطاب الدولي. التوقيت، المتزامن مع ذكرى 11 سبتمبر، أعاد إلى السطح أجواء الخوف والهشاشة الأمنية. وبذلك يمكن ان يتحوّل النقاش في الولايات المتحدة والغرب إلى أولوية الأمن على حساب العدالة وحقوق الشعوب، وهو ما يخدم إسرائيل في لحظة تخضع فيها لضغوط دولية متزايدة لوقف حربها في غزة.
ولعل أحد أهم أبعاد هذا التوظيف الإسرائيلي للأحداث يتمثل في منع الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية. إسرائيل تدرك أن الاعتراف المتزايد من قبل الدول الكبرى بفلسطين يشكل تهديدًا استراتيجيًا لروايتها، لأنه يُحوِّل القضية من ملف نزاع ونزع لشرعية الفلسطينيين إلى ملف تحرري وسياسي مشروع. لذلك، فإن أي حادث يُعيد ربط الفلسطينيين بالإرهاب يُضعف فرص تمرير قرارات دولية لصالح الاعتراف، ويمنح العواصم الكبرى مبررًا للتراجع أو التردد في اتخاذ خطوات عملية بهذا الاتجاه. بهذا المعنى، تصبح الاغتيالات والأحداث العنيفة في الغرب أو كما تم باغتيال الناشط الأمريكي، فرصة إضافية لإسرائيل لتعطيل مسار الاعتراف، وإبقاء الفلسطينيين في خانة “الكيان غير الشرعي” الذي لا يستحق الدولة بل يحتاج إلى رقابة أمنية، ووصمه بالإرهاب.
المغزى هنا أن ما تسعى إليه إسرائيل في مثل هذه الأحداث ليس الفعل الدموي في ذاته، بل أثره السياسي والإعلامي. فالاغتيال والذي كان أخر أعماله ” عملية الدوحة”، يساهم في نسف محاولات وقف الحرب، ويُعطل مساعي الوساطات الدولية، ويُهيئ المناخ لقبول التهجير باعتباره حلاً أمنيًا لا كارثة إنسانية. كل حدث يعزز خطاب “الخطر الإرهابي” يمنح إسرائيل فرصة لإدامة الحرب وتبرير مشاريعها التهجيرية، في ظل تراجع الضغط الأخلاقي والدبلوماسي عليها.
هكذا، يظهر أن العلاقة بين 11 سبتمبر، ومحاولات اغتيال قادة حماس، وحادث كيرك ليست علاقة سببية مباشرة، بل علاقة تقاطعية في الخطاب الدولي. إسرائيل بارعة في تحويل كل أزمة إلى فرصة، لا تحتاج إلى أن تكون وراء كل حادث، لكنها تدرك جيدًا كيف تعيد صياغة دلالاته بما يخدم استراتيجيتهاالقائمة فقط على سحق طموحات الفلسطينيين. وهنا يكمن الخطر الأكبر: ليس في الرصاصة التي تُطلق، بل في دلالاتها التي تُوجه لإدامة الحرب وشرعنة التهجير. بهذا، لا يعود الاغتيال مجرد رصاصة، بل سياسة مكتملة تخدم مشروع الحرب والتهجير وتجهض حلم الدولة الفلسطينية.