اخبار مصر

أسامة غريب يكتب: هوت دوج



نشر في:
الجمعة 9 مايو 2025 – 7:14 م
| آخر تحديث:
الجمعة 9 مايو 2025 – 7:16 م

كعادتي عندما أصل إلى نيويورك، فإنني أتوَجَّه إلى عربة من تلك التي تبيع ساندوتشات الهوت دوج التي يتخصص بها المصريون. ما من مرة ذهبتُ لشراء ساندوتش إلا وجدتني أتفرس في وجه صاحب العربة أبحث عن إجابة السؤال القديم.

نبدأ الحكاية من أولها.. عندما سقطت الطائرة المصرية على الساحل الشرقي للولايات المتحدة في 31 أكتوبر عام 1999، قررت شركة الطيران تشكيل فريق عمل للتواصل مع أسر الضحايا وتقديم المساعدة لهم. صدر القرار بقيام رحلة تحمل أهالي الضحايا إلى الولايات المتحدة ليشهدوا بأنفسهم موقع السقوط وحطام الطائرة الذي أمكن انتشاله.

ومن أجل تيسير الأمر على المكلومين الذين أتوا دون استعداد، فقد تم استخراج تذاكر السفر لمن استطاع تقديم ما يثبت انتسابه بقرابة من الدرجة الأولى لأحد الضحايا. كذلك تواجد مكتب لإصدار الجوازات بشكل فوري لمن لا يحمل جوازًا من الأهالي. وكان أهم ما في الموضوع هو تحرك السفارة الأمريكية وإيفادها وحدة قنصلية قامت باستخراج تأشيرات فورية ودون أي تلكؤ للمسافرين الذين صعدوا إلى الطائرة التي تحركت ليلاً.

رغم مأساوية الموقف، فإن الأمر لم يخلُ من سخرية أضفتها المحاولات التي قام بها النصابون والشطّار للاستفادة من الكارثة. لقد رأى بعض المغامرين في هذه المصيبة فرصة لانتحال شخصية بعض أقارب الضحايا بغرض الحصول على تأشيرة أمريكا، علاوة على تذكرة سفر مجانية.

رأيت بعيني شخصًا حضر إلينا زاعمًا أنه ابن خالة فلان الذي كان على متن الطائرة، وأنه يريد أن يسافر ليعود بجثمان الفقيد. ولكن لحظه السيئ كانت والدة هذا الفلان تقف على الكاونتر في حالة انهيار، فما كان من الموظف إلا أن أشار إلى السيدة وقال للنصّاب: ها هي خالتك تستخرج التذكرة.. ألا تريد أن تسلّم عليها؟ فما كان منه إلا أن انسحب مطأطئ الرأس.

العجيب أنني رأيت هذا الشخص بعد أن أقلعت الطائرة يجلس بين الركاب، ومن الواضح أنه لم ييأس وظل يحاول المرة بعد الأخرى حتى نجح في الحصول على تذكرة وجواز سفر وتأشيرة دون أن يكون قريبًا لأي أحد من الضحايا، لكنها “اليغمة” في ظل مأساة كانت تضغط على أعصاب الجميع وتجعل الوقوع في بعض الأخطاء أمرًا لا مفر منه.

كانت الرحلة التي استمرت اثنتي عشرة ساعة متصلة مرهقة للأعصاب. وبرغم أن فريق عمل شركة الطيران بذل جهدًا كبيرًا في محاولة تخفيف المصاب وتقديم المعلومات، إلا أن الكارثة كانت أكبر من أن تداويها أي كلمات. كان البكاء والعويل والصراخ والنحيب يملأ كل ركن من أركان الطائرة، وسرت وسط الركاب شائعات أطلقها بعضهم بأن هناك أخبارًا عن هبوط الطائرة في إحدى الجزر وأن الركاب كلهم بخير.

ومن هنا فقد أمسكوا بفكرة أن هذه الرحلة للقاء الأحباب الذين نجوا وليست لاستلام الجثامين! ولكن وسط هذا الجمع الحزين كان يمكن مشاهدة اثنين يجلسان محاولين كتم الضحك هنا، ومثلهما هناك، كما كان واضحًا أن هناك من انهمك في تناول الطعام والشراب وكأنه في احتفال برأس السنة أو عيد الشكر. هؤلاء كان من المرجح أنهم من الذين اندسّوا وسط الزحام المأساوي ونجحوا في ركوب الطائرة التي تحملهم إلى أمريكا في فرصة نادرة لم يحلموا بها أبدًا!

بعد هبوط الطائرة في مطار كيندي بنيويورك، دخل الركاب إلى صالة انتظار حيث ستأخذهم طائرة خاصة إلى مدينة نيوبورت على ساحل الأطلنطي قرب موقع سقوط الطائرة، وهناك تم الحجز للجميع بفندق “دوبل تري”. بعد تجهيز الطائرة تم النداء على الركاب ليصعدوا، وأخذ فريق العمل يحصي الركاب للتأكد من عدم تخلّف أحد.

كانت المفاجأة أنه اتضح غياب ثلاثة وعشرين شخصًا ممن ركبوا من القاهرة! ظلت الطائرة على الأرض منتظرة اكتمال الركاب الذين افترض الجميع أنهم بدورة المياه أو ضلوا طريقهم في المطار الواسع. في النهاية لم يكن هناك مفر من الإقلاع لتمضي الطائرة إلى وجهتها وعلى متنها أهالي الضحايا.

أما الثلاثة والعشرون شخصًا المختفون، فلا بد أنهم من الشطّار الذين خدعوا الجميع وتوجّهوا إلى مقصدهم في مانهاتن، حيث وظيفة الأحلام على عربات الهوت دوج، أمل ملايين الشباب الذين يحلمون بتأشيرة أمريكا.

عقب هذا الموقف استمعت إلى كثير من التعليقات التي وصفت هؤلاء بالمجرّدين من الإنسانية، الذين لا يحترمون الحزن ولا يخشعون لجلال الموت. لكني رغم صدمتي لم أستطع أن أكرههم، فقد شكّلوا بالنسبة لي حالة تحتاج للتأمل في كيف يمكن أن يكون الإنسان براغماتيًا على هذا النحو الفظ.

ولعل من حسن حظهم أنهم اختاروا أمريكا التي ابتدعت الفلسفة التي اعتنقوها دون أن يدروا. وعلى الرغم من مضيّ سنوات طويلة على هذه الواقعة، فإنني في كل مرة أقف على عربة ساندوتشات في نيويورك لألتهم شطيرة سجق، أتطلع إلى وجه البائع المصري متسائلًا بيني وبين نفسي: أتراه كان معنا في تلك الليلة على متن الطائرة التي حملت أهالي الضحايا، وكان من الشطّار الذين خدعوا الجميع، ثم عصروا المأساة واستخرجوا منها شهدًا لأنفسهم؟