من الفلافل إلى البقلاوة.. المطبخ المصري حكاية هوية تبحث عمن يوثقها

رنا عادل وسلمى محمد مراد
نشر في:
الأربعاء 17 ديسمبر 2025 – 1:43 م
| آخر تحديث:
الأربعاء 17 ديسمبر 2025 – 1:43 م
لم يكن المطبخ يوما مجرد وصفات تُطهى على النار، بل سجلا حيا لتاريخ الشعوب وتحولاتهم الاجتماعية والاقتصادية، وفي مصر حيث تعاقبت الحضارات وتقاطعت الجغرافيا مع التاريخ، تحول الطعام إلى شاهد صامت على هوية ثرية لم يتم روايتها بعد كما ينبغي.
في هذا التقرير تتحدث الكاتبة والباحثة في التراث الغذائي سميرة عبدالقادر، مؤلفة كتاب “الطبخ أصله مصري” في تصريحات خاصة لـ “الشروق”، عن جذور الأكلات المصرية، وصراعات نسبها، ودور المرأة في إنقاذها، ولماذا تأخر الاعتراف العالمي بالمطبخ المصري رغم كونه من أقدم مطابخ العالم.
المطبخ مرآة الهوية
ترى سميرة، أن التراث هو المرآة الحقيقية للشعوب، وبالنسبة لمصر تحديدا فإن التاريخ والجغرافيا لعبا دورا محوريا في تشكيل مطبخ شديد الثراء والتنوع؛ فمصر بحضارتها الممتدة وموقعها المركزي، وتنوعها المناخي والجغرافي، أنتجت تراثا غذائيا متعدد الطبقات، لا يمكن فصله عن مسارها التاريخي الطويل.
وتؤكد أن المطبخ المصري لم يكن يوما هامشيا؛ بل كان دائم التأثير، ليس فقط في محيطه الإقليمي، بل في العالم كله، بوصفه أقدم مطبخ مستمر في التاريخ، وقادر على التطور والاستمرار عبر العصور، من الفراعنة وحتى اليوم.
أكلاتنا ليست مستوردة
توضح الباحثة، أن أكثر ما صدمها خلال تتبعها لتاريخ الأطباق المصرية هو اكتشاف أن كثيرا مما نعتقد أنه شرقي أو شامي أو تركي هو في الأصل مصري.
وتقول إن كثيرا من الحلويات المنسوبة اليوم إلى الشام وتركيا والهند، هي في الأصل مصرية، وأن الروايات الشائعة عن أصول هذه الأطباق تفتقر إلى أي توثيق علمي، بينما تعتمد على تكرار ادعاءات غير مدعومة بالمصادر، فيما تشير الشواهد إلى أن مصر بوصفها أقدم حضارة وأقدم مطبخ مستمر، كانت المنبع الأساسي لكثير من الأطباق المنتشرة في الشرق الأوسط، من الكنافة والبقلاوة إلى المحاشي.
وتضيف أن دولا كثيرة بذلت جهدا كبيرا في صناعة سردية عن تراثها الغذائي، حتى لو استندت إلى الاقتباس أو التزييف، بينما تقاعس المصريون عن الدفاع عن تاريخهم، بل وصدقوا روايات تم كتابتها بأقلام غير مصرية دون مراجعة.
حتى أن الأدب الشعبي لم يسلم من نسبه لغير مصر، مثل “ألف ليلة وليلة”، التي تحتوي على إشارات واضحة للأطعمة والحلويات المصرية، إلى جانب أشعار لفلاحين مصريين في العصر العثماني، الذين كانوا يذكرون الفطير والبقلاوة والعيش المصري أثناء عملهم في الحقول، الطعام والعلاقات الاجتماعية تاريخ من الازدهار والانكسار.
وتكشف الباحثة، أن تحولات المطبخ المصري مرتبطة بشكل وثيق بالأحوال الاجتماعية والسياسية؛ ففي العصر الفاطمي كانت الموائد تمتد في الشوارع، وتفيض بالسكر واللحوم، حتى أصبحت مصر مقصدا لشعوب المنطقة، بينما شهد العصر العثماني -الذي تصفه بأنه من أقسى الفترات على المصريين- تراجعا اقتصاديا أدى لاختفاء أكلات تعتمد على المكسرات واللحوم، وانتشار أطعمة البقوليات والنشويات، وتضرب مثالا باختفاء أنواع من الكعك المصنوع من دقيق الجوز والمكسرات، والتي انتقلت لاحقا إلى المغرب وشمال إفريقيا باسم “كعب الغزال”، بينما اندثرت من مصر.
في المقابل، استمرت الأكلات الشعبية والمشروبات مثل القهوة، التي تؤكد أنها كانت جزءً من جهاز العروسة المصرية، على عكس الاعتقاد السائد بأن الشاي هو المشروب الأقدم.
المرأة.. الحارس الحقيقي للتراث
بحسب سميرة، تلعب المرأة الدور الأهم في الحفاظ على التراث الغذائي ونقله عبر الأجيال، حيث تؤكد أن المرأة المصرية لعبت الدور الأهم في إنقاذ المطبخ المصري، فمع تراجع الأحوال الاقتصادية أعادت النساء ابتكار الوصفات باستخدام مكونات أقل كلفة، دون التفريط في الروح الأصلية للأطباق، لتكييفها حسب الظروف.
وتشير إلى أن حلويات المولد، مثل أقراص السكر، ظهرت في سياقات تاريخية محددة، مستفيدة من كون مصر من أقدم وأكبر منتجي السكر عالميا، فعندما تراجعت الأحوال الاقتصادية ظهرت أصناف تعتمد على السكر بدل المكسرات.
وتضيف أن بعض الحلويات الحديثة، مثل “المارشملو” تعود جذورها إلى مصر القديمة، حيث كانت تُصنع من نباتات طبيعية قبل أن تتغير مكوناتها عبر الزمن.
كما تؤكد أن تنوع الخبز والفطائر في مصر لا يُضاهى، ما يجعلها من أكثر مطابخ العالم تطورا في هذا الجانب.
الإشهار قبل الأوراق
ترى الباحثة، أن التوثيق لا يبدأ فقط من اليونسكو، بل من إقناع المصريين أنفسهم بملكية تراثهم، وأن التوثيق الحقيقي يبدأ بالإشهار، أي نشر الوعي داخليا قبل السعي للاعتراف الخارجي، واستشهدت بتركيا كمثال نجحت في ترسيخ صورتها عالميا، رغم أن كثيرا من وصفاتها منقولة عن مصر والعراق.
أكلات على حافة الاختفاء.. والخبز أول الضحايا
تحذر سميرة من اندثار أنواع كثيرة من الخبز والفطائر، بسبب صعوبة تقنياتها وطول وقت تحضيرها، وعزوف الأجيال الجديدة عن تعلمها.
كما تشير إلى حلويات محلية في محافظات، مثل الشرقية وبورسعيد والإسكندرية، لا يعرفها باقي المصريين في المحافظات الأخرى، وأكلات اندثرت بالفعل، مثل أطباق “الحلو والحادق” التي كانت تجمع بين اللحوم والفواكه، كالبرقوق والمشمش.
وتضيف أن مصر عرفت أنواعا متعددة من “الكُبَب” والكفتة، ولم يتبقَ منها سوى القليل، مثل كفتة الأرز، إلى جانب وصفات البيض والشوربات القديمة، مثل “السخينة” التي تشبه شوربة البصل الفرنسية.
لماذا لم يصل المطبخ المصري للعالمية؟
تختصر سميرة الإجابة في جملة واحدة وهي “لأننا لا نعرف تاريخنا”، وتوضح أن المصريين صدقوا طويلا أن أكلهم فقير أو غير جذاب، حتى أصبحت أطباق مثل “الفلافل” عالمية بعد أن كانوا يُعايرون بها.
وتوضح أن الاعتماد على مراجع غير مصرية، والاستحياء من التراث، سمح للآخرين بنسب الأكلات لأنفسهم، بل إن بعض المصريين في الخارج، بحسبها، يخشون وصف الأكلات بأنها مصرية حتى لا يثيروا حساسية إقليمية، وهو ما سمح لغيرهم بالاستيلاء على السردية كاملة.
ما الذي يجب توثيقه أولا؟
تختتم الباحثة حديثها بالتأكيد على أولوية توثيق الأكلات الشعبية، مثل الفلافل والبصارة، والمحاشي المصرية، والممبار، والحلويات المهددة بالاندثار، خصوصا أنواع الكنافة والبقلاوة غير المعروفة عالميا.
وتقول إن أول خطوة لنشر تراثنا عالميا هي أن نصدق نحن أنه تراثنا، لأن الطعام ليس مجرد أكل، بل شهادة حضارية على من نكون، وفيه تكمن هوية مصر التي لم يتم حكايتها بعد للعالم كما تستحق.
