عندما خطب عبد الله كنون الجمعة في مسجد لينينغراد بالاتحاد السوفياتي

تفاصيل رحلة رسمية قادت أعلاما مغاربة إلى عدد من جمهوريات الاتحاد السوفياتي قبل سقوطه بأزيد من عقدين، للتعرّف على وضع المسلمين هناك، ترى النور مجتمعة بعدما يقربُ ستين سنة من كتابتها، في نصوص رحليّة صادرة عن “دفاتر رباط الفتح للتنمية المستديمة” درسها ووثّقها مصطفى الجوهري، وكتبها محمد بن عبد العزيز بن عبد الله، الذي أدار وترأّس مجلة “دعوة الحق” التابعة لوزارة الأوقاف.
كتاب “رحلتي إلى الاتحاد السوفياتي أو زيارة الوفد المغربي للاتحاد السوفياتي”، الذي دُوِّن سنة 1968، يوثّق تفاصيل رحلة مغربية رسمية إلى الاتحاد السوفياتي بدعوة من حكومة الاتحاد، عيّن فيه الملك الراحل الحسن الثاني أسماء ترأّس وفدها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد بركاش، وهي: عبد الله كنون، عبد الرحمان الدكالي، عبد الكبير الفاسي، محمد بن عبد الله، ورافقهم عبد الهادي الصبيحي، سفير المملكة بالاتحاد السوفياتي آنذاك.
ومن بين ما يحكيه النص الرحلي، بقلم بن عبد العزيز بن عبد الله، كتابتُه: “في مدينة لينينغراد، التي تحمل اسم نبي الشيوعية “لينين”. وبعد أذان الظهر، قام فضيلة الأستاذ السيد عبد الله كنون، الأمين العام لرابطة علماء المغرب، خطيبا فوق منبر هذا الجامع العظيم الذي اكتظت جنباته بمئات المصلين. لقد حدثهم عن مبادئ الإسلام، وأسباب ظهوره، ومواقف الرسول الأعظم في تبليغ دعوته إلى الناس كافة. كما أشار إلى أثر العقيدة الإسلامية في نفوس أتباعه، واستماتة المسلمين في سبيل نشر الدعوة الإسلامية. وقد أعطى نماذج من الصحابة الذين أوذوا في سبيل عقيدتهم والدفاع عن عقيدة الإسلام، وحماية الدعوة المحمدية”.
هذه الخطبة التي ألقيت باللغة العربية، ترجمها إلى اللغة الأوزبكية ضياء الدين بابا خانوف، مفتي الجمهوريات الخمس المسلمة بالاتحاد السوفياتي.
كما يتحدث النص الرحلي عن زيارة الوفد المغربي مرقد الإمام البخاري خارج سمرقند، قائلا: “وقفنا أمام ضريح الإمام البخاري مترحّمين معتبرين، داعين الله أن يكشف عن المسلمين ما لحقهم من ضرّ، ونشر الإسلام، ويحصنه من عادات الزمان، ويوفق الأمة المغربية والعربية والإسلام لما يرشدها ويهديها إلى السبيل القويم”. وتابع: “وقد نزلنا دوحة شجرة غناء، عالية سامقة، ثأرها في السماء، لها خمسمائة عام، قد أرخت أفنانها واحتضنتها، وحنت علينا حنة الوالدات على الفطيم، فشربنا – تحت ظلالها – كؤوس الشاي، بجوار الضريح، في جلسة تعد فلتة من العمر، وقد تدفقت في قلوبنا أحاسيس شتى من الغبطة واللذة ونحن نعطر جوها بتاريخ هذا الإمام العظيم”.
ويحكي هذا النص كثيرا من المشاهدات بجمهوريات الاتحاد السوفياتي وعواصمه الكبرى، ويقدم استطرادات حول نظام الكولخوزات، والعمل الجماعي، وإلغاء الملكيات الكبيرة والأوقاف الدينية، وجمال كثير من مدن الاتحاد السوفياتي؛ ومن بينها سمرقند الأوزبكية، وسيبيريا الجميلة في بداية الصيف، وموسكو ولينينغراد. كما يقرّب من القارئ معلومات عن التاريخ الإسلامي، والسوفياتي، والتنظيم الإداري، والوضع العلمي، والجامعات، والمتاحف، والمسارح، والمكتبات، والمساجد، والمخطوطات النادرة العربية والفارسية وبلغات شرقية أخرى، فضلا عن جهود الاستشراق الروسي في كشف مكنونات الإسلام والعربية.
ويركز الكتاب على وضع المسلمين بالاتحاد السوفياتي، داخل دولة تعلن الإلحاد معتقدها الرسمي، فتقول في دستورها: “لكي يتمتع المواطنون بحرية الضمير تفصل الكنيسة في الاتحاد السوفياتي عن الدولة، والمدرسة عن الكنيسة، وتكفل لجميع المواطنين حرية العبادة الدينية، كما تكفل لهم حرية الدعوة ضد الدين”، كما أنها لا تمول المساجد والكنائس؛ بل إن المسلمين هم من يتبرعون بإخراج الصدقات، “لمساعدة العلماء والأئمة لإحياء الدين الإسلامي، وإقامة شعائره في أرجاء الاتحاد السوفياتي، ولاسيما بعد تأميم الأوقاف من قبل الحكومة السوفياتية”.
ويوثّق هذا العمل الرحلي أن هدية الوفد المغربي لمن التقاهم من المسؤولين الرسميين المسلمين هي المصحف الذي أمر الملك الحسن الثاني وزارة الأوقاف والشؤون بطباعته، مع مجموعة من منشوراتها، كما ترد فيه محادثات وكلمات وتعليقات رسمية، وأخرى بين الوفد حول معلومات اكتشفوها بتلك البلدان متباعدة الأطراف، والمجتمعة تحت علم مشترك.
ومما يطالعه القارئ من كلمات المفتي ضياء الدين بباخانوف، في مخاطبته الوفد المغربي: “الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وجعل الأخوة الإسلامية أعظم رابطة إلى سبل السلام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيئين ما انقشعت به في العالم كله ظلمات الكفر والأوهام، وعلى آله وصحبه الذين سعدوا بكل خدمة للإسلام، والإيمان إلى يوم القيام. (…) وإن العالم كله، وخصوصا العالم الإسلامي، صار مبتلى بأزمات خطيرة على أيدي القوى الاستعمارية، والدوائر الظالمة، ولا تزال سماء العالم الإسلامي ملبدة بسحب الأخطار الجسيمة والتحديات الخطيرة. وهذه مرحلة من أحرج مراحل التاريخ، والمسلمون فيها أحوج مما كانوا إلى الاستمساك بالقرآن والاستناد إليه، وأن الله يرفع بهذا القرآن أقواما، ويضع به آخرين، والقرآن يدعونا اليوم إلى أن نعي ما أودع الله فيه من النواميس والتعاليم”.
كما قال المفتي للمغاربة الوافدين على الاتحاد السوفياتي أواخر ستينيات القرن العشرين: “إن الأزمات الماثلة أمام أعيننا، وجبهات المؤامرات، والجروح الدامية التي أصيبت بها الأقطار الإسلامية العربية على أيدي الاستعمار والصهاينة، والقوى العدوانية في الفترة الأخيرة لا تزال آلامها تتفاعل في القلوب، إن الكارثة قد أدمت قلب كل نفر من المسلمين. نرى من الواجب علينا أن ننقل إليكم شعور المسلمين في آسيا الوسطى وقازاغستان، إن طريق البقاء والسلام هو ليس إلا طريق التضامن والتكافل على أسس الأخوة وأواصر الصداقة”.