الأخلاق تنتصر على المال .. صندوق نرويجي يفضح اقتصاد الاحتلال

في لحظة فارقة من تاريخ الحرب على غزة، حيث تسيل الدماء وتُهدم البيوت وتُجوع ملايين الأنفس، جاء قرار صندوق الثروة السيادي النرويجي – أضخم صندوق استثماري في العالم بأصول تتجاوز تريليوني دولار – بسحب استثماراته من شركات مرتبطة بالضفة الغربية وغزة، ليعيد الاعتبار إلى فكرة أن الأخلاق يمكن أن تكون جزءًا من الاقتصاد وأن المال لا ينبغي أن يختلط بدماء الأبرياء.
القرار لم يكن ماليًا بحتًا؛ بل موقفًا سياسيًا وأخلاقيًا بامتياز. الصندوق لم يعلن فقط أنه سيبيع حصصه في شركات إسرائيلية تتعامل مع المستوطنات أو جيش الاحتلال؛ بل أوصل رسالة واضحة: لا استثمار في اقتصاد قائم على الاحتلال والإبادة. إنها خطوة تكسر الصمت الأوروبي، وتفتح الباب أمام تحولات أكبر قد تعيد رسم خريطة الاستثمارات العالمية في إسرائيل.
إسرائيل، التي لطالما تغنّت بقدرتها على جذب الاستثمارات الأجنبية باعتبارها “وادي السيليكون” الجديد في الشرق الأوسط، فوجئت بالقرار. ليس لأن حجم الاستثمار النرويجي ضخم نسبيًا فحسب؛ بل لأنه جاء من مؤسسة عُرفت عالميًا بدقتها وصرامتها الأخلاقية. الصندوق النرويجي لا يتحرك عبثًا؛ كل دولار يُستثمر يخضع لمراجعة أخلاقية دقيقة. وهذا ما يجعل قرار التخارج صفعة مدوّية: فإسرائيل لم تعد فقط دولة محتلة، بل أصبحت “دولة سامة استثماريًا”، تُسجّل في دفاتر المؤسسات الكبرى كمصدر خطر أخلاقي.
الأهم من حجم القرار هو أثره الرمزي؛ فالنرويج ليست مجرد دولة أوروبية صغيرة، إنها صاحبة واحدة من أكثر التجارب احترامًا في الإدارة الاقتصادية الرشيدة. حين تقول هذه الدولة إن الاستثمار في إسرائيل ملوث بالدم، فهي تُشرعن عالميًا للمقاطعة الاقتصادية، وتفتح الباب أمام صناديق أخرى – من الدنمارك إلى أستراليا ونيوزيلندا – لتتخذ خطوات مشابهة. كرة الثلج بدأت تتحرك، ولا أحد يعرف أين ستتوقف.
لكن الدرس الأبلغ موجه إلى الآخرين، أولئك الذين انخرطوا في علاقات اقتصادية مع إسرائيل تحت شعار “التعاون” و“التنمية المشتركة”. هؤلاء يتلقون، اليوم، صفعة من الغرب نفسه. الغرب الذي يقلدونه في كل شيء يسبقهم، الآن، إلى المقاطعة؛ بينما هم يلهثون خلف عقود وصفقات مع شركات تُشارك في هدم غزة وحصار الضفة. أية مفارقة هذه؟
المفارقة الكبرى هي أن بعض العواصم تعتبر أن الاستثمار مع إسرائيل هو طريق إلى النفوذ الدولي وكسب ودّ القوى الكبرى؛ غير أن ما فعلته النرويج يثبت العكس تمامًا: الطريق إلى الشرعية الدولية يمر عبر المواقف الأخلاقية، لا عبر مصافحة مجرمي الحرب. لقد حوّلت إسرائيل اقتصادها إلى “اقتصاد إبادة”، قائم على بيع السلاح وحصار الغذاء وهندسة الاستيطان. وكل من يفتح له أبواب السوق شريك في الجريمة، شاء أم أبى.
لقد أثبت القرار النرويجي أن الاقتصاد يمكن أن يكون أداة مقاومة. فكما أن الجرافات الإسرائيلية تهدم البيوت، يمكن للأموال النظيفة أن تهدم شرعية هذا الاحتلال. السؤال اليوم: هل ستجرؤ صناديق أخرى على اتخاذ خطوة مشابهة؟ أم أن شعارات “دعم القضية الفلسطينية” ستبقى مجرد خطب، بينما الواقع هو توقيع عقود شراكة مع بنوك وشركات تموّل قتل الفلسطينيين؟
إن ما بدأته النرويج ليس نهاية المعركة؛ بل بدايتها. إنها بداية نقاش عالمي حول شرعية الاستثمار في دولة تمارس الإبادة كسياسة يومية. إسرائيل تدرك ذلك. ولهذا، تصاب بالذعر من احتمال انتقال العدوى إلى صناديق أخرى. أما الآخرون، فيدفنون رؤوسهم في الرمال، متوهمين أن المال أعمى عن الدم.
لكن الحقيقة أوضح من أن تُطمس: من يستثمر في إسرائيل، اليوم، يستثمر في جرافة تهدم بيتًا في غزة، في قنبلة تسقط على طفل، وفي رصاصة تُطلق على متظاهر في الضفة. النرويج فهمت ذلك. فمتى يفهم الآخرون؟