مسلسلات بين الحياة والموت .. الدراما والواقع في عوالم المستشفيات

قد يبدو من الترف أو من باب هدر الوقت، بالنسبة لمواطن مغربي يشتكي من نقائص وقصورات متعدد في بنيات الخدمات الطبية العمومية والخاصة، مشاهدة مسلسلات موضوعها التطبيب والصحة، سواء كانت وثائقية أو تخييلية. لن تسعده تلك المشاهدة بقدر ما قد تثير غضبه وأسفه على طاقات بشرية وطنية عالية التأهيل في الطّب، تتسابق دول أكثر تقدما على استقطابها، وبلده ومواطنيه في أمس الحاجة إليها ولمؤهلاتها العلمية. غير أن هذه النوع من الأعمال الدرامية والوثائقية، وبالنظر لما تكشفه من أساليب ومناهج وتحديات ومعضلات تعيشها أنظمة صحية أكثر تقدما وأدق تنظيمًا، توفر للمشاهد مجالاً لمقارنة كاشفة، كما أنها تعرض صورة عمّا يمكن أن تكون عليه مهنة الطب، حينما يتمتع طاقمها بالكفاءة العالية وبالتّفاني، وعندما يكون هذا الطاقم يشتغل ضمن بنية توفِّر له تجهيزا وتنظيما وعقلية وظروفا ملائمة للعطاء.
يعتبر العطاء والتمكُّن والمِهنية صفاتٍ ما تزال حاضرة ومعترف بها لدى العديد من الأطباء المغاربة رغم إكراهات الممارسة البنيوية التي تهيمن على مناخ اشتغالهم. لا تُعوِّض مقاربتنا هذه الفعل الميداني المطلوب لتحسين الوضع الوطني للتطبيب العمومي، لكنها تغذي وعيًا نقديًا ورؤية مُتطلِّبة، في انتظار تفعيل المشروع البنيوي والاستراتيجي لإصلاح المنظومة الصحية العمومية بالمغرب، كما تقرر وأعلن عن ذلك جلالة الملك محمد السادس.
تقديم
في وقت أصبحت فيه متابعة المسلسلات ظاهرة جماهيرية تعوض جزئيًا عشق السينما التقليدي الذي كان يرتبط بالذوق الجمالي وبالوعي المدني، يبدو مناسبًا أن نحلل كيف يتعامل شكلان من الإنتاج السمعي البصري التلفزيوني وهمالا الوثائقي والدرامي مع موضوع الصحة الطب. يتعلق الأمر هنا من جهة أولى بالفيلم الوثائقي البريطاني ” نبض أخير: بين الحياة والموت – Critical: Between Life and Death ” نتفليكس – Netflix 2025)، ومن جهة أخرى المسلسل الأمريكي الدرامي “الطبيب المقيم – The Resident” (2018–2023).. نقارن في هذا المقال بين مقاربة كل منهما الطبية والفلسفية والأخلاقية والسردية والسياسية، كإنتاجات سمعية بصرية جمالية للقضايا الإشكالية للصحة وممارسة الطب وطبيعته عموما
1 – وقائع
Critical: Between Life and Death مسلسل وثائقي قصير من 6 حلقات تبثه منصة نتفليكس – Netflix، يتابع عن قرب النظام الطبي المتخصص في الطوارئ بمدينه لندن على مدى أسابيع، مانحًا المشاهد وصولاً/ مشاهدة غير مسبوق، إلى فرق الإسعاف والجراحين وأطباء الإنعاش. صُورت مشاهد هذه السلسلة الوثائقية بكاميرات ثابتة ومتحركة، تمنح إحساسًا سينمائيًا يُبرِزُ قسوة الواقع الطبي في لحظات الخطر.
أما The Resident فهو مسلسل درامي أمريكي سبق وتم عرضه على قناة فوكس – Fox بين 2018 و2023 – وهو متوفر حاليًا على منصة نتفليكس.
استلهمت بعض أحداث المسلسل الدرامي من كتاب “ Unaccountable ” للطبيب مارتي مكاري. ويروي المسلسل الحياة المهنية والشخصية للأطباء في مستشفى من صنع الخيال يسمى تشاستين، تتكشف خلال أحداثه التوترات التي يفرضها النظام الإداري واستغلال الرعاية الطبية داخل واقع رأسمالي قاسٍ، في الوقت الذي يظهر فيه أطباء إنسانيو النزعة، قادرون على تغيير مصائر.
2 – الأساليب السردية والوظائف الاجتماعية
يعتمد الفيلم الوثائقي على أسلوب الملاحظة المباشرة ومنها: كاميرات مرافقة وتصوير ماخبار السعودية continuous shot وشهادات حية. غاية السلسلة الوثائقية مدنية وتربوية، تتمثل في إظهار عمل فرق الإنقاذ المنسي وتوفير مادة للنقاش العمومي. وقد أبرز النقاد قوة السلسلة الغامرة وقدرتها على خلق توتر درامي دون الخروج عن الواقع والابتعاد عنه. يتطلب إنجاز هذا النوع من الأعمال طاقمًا تقنيًا عالي الكفاءة وإخراجًا متحكمًا في أدواته ومفاهيمه وفي تفاصيل الميدان الطبي.
يعتمد المسلسل الدرامي على الخيال والتخييل كأداة للنقد الأخلاقي، فالشخصيات تُجسّد صراعات اجتماعية تتمثل في مظاهر متعددة منها البيروقراطية والمصالح المالية وتعقيدات هياكل “المركّب الطبي-الصناعي” الرأسمالي. وتكمن قوة السلسلة الوثائقية في إثارة التعاطف وشحذ الغضب الشعبي، ولو بثمن التبسيط والمبالغة الدرامية. ومن الواضح أن أداء الممثلين المدروس يمنح القوة والطاقة الخلاقة لتماهي المشاهد مع شخصيات السلسلة.
3 – الأخلاقيات المهنية في مواجهة منطق السوق
تعرض السلسلة الوثائقية أطباء يناضلون ميدانيًا في مواقف تقنية حاسمة، حيث تحوز أخلاقيات العناية بالإنسان الأولوية، رغم ضغط ثقل النظام الصحي العمومي ومحدودية إمكاناته، قياسًا بكثافة مدينة مثل لندن. وتؤكد المؤسسات المشاركة خلال عبر السرد الوثائقي تعاونها لإبراز فعالية نظامها في الأوقات الحرجة.
يبرز المسلسل من جهته التوتر والصراع بين الرسالة الإنسانية للطبيب وبين منطق الربح. ومن الواضح أن المسلسل متأثر بكتابات فضحت غياب الشفافية والمساءلة في المستشفيات، وهو ما يجعل من مواجهة بين الإنسانية والممولين، محركا قويا يوظف النزعة الربحية من خلال مركزتها محورا سرديا للمسلسل. تتطابق هذه المقاربة الثنائية في السلسلة الدرامية مع تحليلات معاصرة تنتقد تغليب الربح على حساب جودة العلاج.
4 – أثر الدراما والوثائقي على الوعي المدني والمهني
تقدم السلسلة الوثائقية مادةً ملموسة تُغني النقاش العمومي حول إدارة الطوارئ لدى المشاهدين من حيث تدبيرها وتجهيزها وتنظيمها وفعالية عملها الصعب والمعقد، كما تطرح السلسلة للنقاش العمومي أيضا توزيع الموارد والإمكانيات على المستشفيات. يتم التعامل في السلسلة الوثائقية يتم التعامل مع حالات واقعية تجعلها أداة أكثر فعالية لتنوير الفعل المدني وللمساهمة في تحسينه والتعاون في جعله محرك رقي بأداء النظام الاجتماعي والتكافل المطلوب.
يثير المسلسل الدرامي بالمقابل، من خلال سرده التخييلي غضبًا عاطفيًا مباشرًا لدى المشاهد، يُمكِّنه تحفيز التعبئة الشعبية حول قضايا الصحة العمومية وخدمات الدولة، كما يناقش ظروف عمل الأطقم الطبية في علاقتها بظروفهم الشخصية وبحكايات كل منهم مع الواقع المعقد الذي يجرُّون تاريخه الخاص معهم إلى المستشفيات. ينزع الكشف عن ظروف عمل الأطباء وطرح معاناتهم الخاصة الإنسانية، ينزع عنهم الصورة الشعبية التي قد تتخيلهم قد لا يعانون ولا يمرضون ولا يحبون ولا يضعفون ولا يبكون إلخ. لكن المسلسل مع ذلك يعاني من التبسيط الذي قد يحجب فهم الآليات السياسية والاقتصادية المعقدة لقطاع الصحة العمومية والخاصة، في أمريكا طبعا، التي تنظم مهنة الطب في النظام الرأسمالي.
5 – صورة الجسد والهشاشة الإنسانية
يُعرَض الجسد في السلسلة الوثائقية وفي المسلسل الدرامي، اللذان نحن بصدد تحليلهما، في هشاشته وفي واقعه المادي الصّادم أحيانًا. يضع عرض الجسد في السلسلة الوثائقية المشاهد وجهًا لوجه مع حقيقة الطب الاستعجالي القاسية والخطيرة حيث الوضع في الغالب الأعم حرج بين الحياة والموت ومن ثمة عنوان السلسلة: “نبض أخير: بين الحياة والموت”. تحيل هذه صور السلسلة إلى مفهوم فوكو عن “النظرة الطبية” حيث يصبح الجسد مجال معرفة وتدخُّلٍ ومسؤولية.
أما في السلسلة الدرامية، فيوظف الجسد لخدمة الحبكة، بحيث تكون الجروح والعمليات الجراحية مجرد دوافع درامية لمواقف تُسائِل الفلسفي الوجودي والأخلاقي المهني. يحضر التعاطف بقوة في السلسلة الدرامية، لكن المعرفة التقنية تأتي في المرتبة الثانية بعد التشويق وبعد القضايا الأخلاقية المبسَّطة، لضمان انتشار جماهيري واسع للسلسلة.
خاتمة
تقدم للمشاهد كلٌّ من السلسلة الوثائقية “Critical: Between Life and Death” والمسلسل الدرامي “The Resident” منظورًا رافعا لدرجة الوعي المدني بطبيعة وسياقات وظروف وآليات ممارسة الطب الحديث كمهنة إنسانية عالية الاتصال بالقيم الفكرية والجمالية والأخلاقية النبيلة، في أنظمة صحية متقدمة وعالية التجهيز: فالسّلسلة الوثائقية الإنجليزية تكمن قيمتها في طابعها الوصفي والواقعي في نفس الوقت، أما المسلسل الدرامي فيتميز بكونه تخييلي وذو طابع نقدي لما هو قائم.
نعتبر السلسلة الوثائقية من جهة ثانية مغنية للنقاش العام حول المعطيات الإنسانية والوقائعية لطب المستعجلات المعقد والصعب والمتطلب لطاقات بشرية ولوجستية وتنظيمية ومالية عالية، بينما يحرك المسلسل الدرامي بطابعه التخييلي المركب وبإيقاعه العالي في السرد، العاطفة وينتقد منطق السوق الذي يهيمن على قطاع الصحة في النظام الأمريكي الرأس مالي.
لبلوغ وعي مواطني مستنير بقضايا الصحة والطب لا بد من الاستفادة في الفرجة السمعية البصرية التلفزيونية والسينمائية معا من الطابعان الوثائقي والدرامي معا: الملاحظة الدقيقة والصارمة في الوصف وفي تبريز اللحظات الفارقة والحرجة في صيغة واقعية بالنسبة للوثائقي، والسرد الإنساني التخييلي النافذ للوجدان والعواطف كما للفكر التحليل للوضع برمته في تركيبيته بين ضغوط التمويل والتنظيم، وضمير الإنسانية المرتبط بالإحساس وبالأخلاق وبالمهنة وبقسمها، قسم أبقراط، التاريخي.
أما بالنسبة للمشاهد المغربي الذي يعرف محدودية نظامه الطبي والذي يعيش رهان إصلاح عميق وصعب أسوة بالتحديث العام والهيكلي الذي تعرفه المملكة عموما، فإن مشاهدة أعمال من هذا المستوى عن الصحة العمومية وخدماتها وبنياتها، تظل بمثابة أدواتٍ مُفيدَة لفهم رهانات الطب المعاصر على كل المستويات، كما تفيد في تقدير واعتبار الجهود اليومية التي يبذلها الأطباء الأكفاء والمتفانون، وهي صورة ما زال كثير من الأطباء المغاربة يجسدونها بإخلاص تام واستحقاق لا غبار عليه.