من حلب إلى الرباط .. رحلة مغترب سوري نحو الملاذ الآمن في المغرب
“يحلو البوح بعد سبعة وأربعين عاما من الاغتراب القسري الذي فرض على قطاعات كثيرة من الشعب السوري نتيجة الظلم والإرهاب الذي قيد سوريا بقيود الوهن والضعف والدمار والدماء”، بهذه الكلمات بعد نشوة الخلاص والنصر بعودة سوريا إلى أهلها عامة عبر المغترب السوري علي الأحمد عن سعادة غامرة تملأ القلب والوجدان، فرحا وسرورا باندحار حكم العصابة التي أرهقت البلاد والعباد، ومبشرة بعالم جديد تسوده المحبة والوئام وتتلاقى فيه أطياف الشعب السوري على صعيد المحبة والانسجام، بدولة كريمة يكون الإنسان محورها الأساسي بناء وعمرانا، تلاحما وتضامنا، عطاء وإيثارا، بعد أن أفسد النظام بنية الأسرة السورية بإرهابه وغطرسته وفروعه الأمنية.
بدايات الاغتراب
“في السادس من سبتمبر 1977 وطأت قدماي أرض المغرب قادما من سوريا للعمل في سلك التعليم بصفتي أستاذا للغة العربية، في مدينة القنيطرة التي أمضيت فيها سبع سنوات؛ فكانت المدينة التي وجدت نفسي فيها كإنسان يحلم بالمستقبل بعد وأد هذا المستقبل في بلدي نتيجة الظروف السياسية التي كانت سائدة في سوريا آنذاك”، يحكي علي الأحمد تجربته الحياتية في المملكة المغربية التي منحته المحبة والمودة وشرف العمل، الذي أعطاه كل ما يملك في مجال التدريس الذي أحبه وتفاعل معه، وأردف قائلا: “هنا ينبغي القول إن المغرب بسماحة أهله وطيبوبة شعبه، ومحبته للغريب، لاسيما العربي، يعتبر مثالا راقيا للسكينة والاطمئنان، وهذا فضل لا ينسى على مر الزمن”.
ومرد هذه الغربة التي طالته، ونالت منه ما تنال السنين من أبنائها شيبا وضعفا، إلى سببين أساسيين بحسب ما قاله المتحدث ذاته: محاربة كل من هو غير بعثي في عمله ووظيفته، ما جعله في دائرة المغضوب عليهم حزبيا، والسبب الثاني البحث عن أفق جديد يتلمس فيه شيئا من الحرية على صعيد الفكر والانتماء.
هذه حال كثير من السوريين الذين حوربوا في أفكارهم، وأعمالهم، ووظائفهم، وانتماءاتهم، فما كان منهم سوى البحث عن آفاق جديدة لعلها ترضي بعض الطموحات التي كانوا يتطلعون إليها، وهذه الطموحات ليست هي الدافع الأساسي لهذا الاغتراب الطويل، بقدر ما كان البحث عن ملاذ آمن يجد الإنسان نفسه فيه مطمئنا على نفسه، وأسرته.
وفي هذا الوضع الذي عاشه أستاذ اللغة العربية لم ينقطع الحنين والشوق إلى المهد الأول في حياته، كأنما الوطن محمول على عواطفه، وأفكاره، وخلواته النفسية ومشاعره الدفينة، ما كان يبعث في نفسه مشاعر الأسى، ولواعج الشوق لتلك الديار التي فارقها مكرها بعدما طالت مدة الاغتراب، وتركت في نفسه آثارا عميقة الجذور في الحنين والشوق وألم الغربة.
وبحرقة الألم الذي يستشعره كل مغترب تحدث علي الأحمد عن رحيل أهله بقوله: “لقد انتقلوا إلى جوار ربهم دون وداع، ودون نظرة أخيرة تختزل مشهد الدموع، ومشاعر الفقد، ثم انتقل بعدهم الإخوة والأخوات ولم نؤد حق الوداع في تشييعهم إلى المثوى الأخير. تلك هي مأساة الاغتراب التي نعيشها في كل آن وحين”.
حلم العودة
استيفظ السوريون فجر الثامن من دجنبر الجاري على مفاجأة طالما حلم بها الشعب التواق إلى الحرية والانعتاق من قيود عبودية العصابة الظالمة، إنه يوم النصر، فاستجابت له كل المدن السورية، وتفاعلت مع الحدث تفاعلا أعاد لسوريا وجهها الحقيقي الجميل البهي المضياف العريق، فتلاقى أبناء الوطن على احتضان الثورة، والتماهي معها إلى أبعد حدود العناق واللقاء، ما أثلج صدور المغتربين الحالمين برؤية الوطن، ما شكل لهم حلما يداعب أجفانهم، ويرضي طموحاتهم في الوصول إلى أرض الوطن بعد طول غياب، وليل معاناة.
وعن انطباعه باندحار نظام الأسد ونجاح الثورة يأمل علي الأحمد العودة إلى أرض الأجداد لكي يتملى من حسنها وينهل من حبها ويروي ظمأ السنين التي كانت تتوق إلى رؤية الوطن، بقوله:
“إنها فرحة غامرة خالجت كل نفس مغتربة، وداعبت كل مخيلة تهفو إلى الأرض سكانا وأهلا وأحبابا، ما يجعل الشوق فوارا موارا بتقبيل تراب الأرض واحتضان الأهل والمعارف والأصدقاء الذين غابت ملامحهم ووجوههم عن ذاكرتي المثقلة بألم السنين، وفرحة المستقبل”، وواصل حديثه قائلا: “لكن الجذر الذي نبت في المغرب سيبقى مزهرا مثمرا بالحب والعطاء والمودة التي رعيناها بأعيينا وأقوالنا وأفعالنا، فالمغرب وطن الجميع وأكرم به من وطن عزيز كريم ضارب في أعماق التاريخ”.
تلك هي ثنائية حب الأرض في المغرب وسوريا التي تتناوب على المشاعر والأحاسيس، ما يجعل تيار الوعي، وتيار المحبة، وتيار الإخلاص لهذا الوطن الجميل، متناوب الوقع، متتابع الانفعال، مستمر الإيحاء بكل ما يجمع البلدين من وشائج القربى والمحبة والأخوة التي لن يمحوها الزمن، ولن تنال منها صروف الأيام… جناحان ممتدان عبر المشرق والمغرب يحلق فيهما علي الأحمد بكل إجلال وتقدير وامتنان.
غياب وحضور
في هذا الجو المملوء بكل أمارات الشوق للأرض التي فارقها، وللأهل الراحلين، كان حضور المغرب الذي انعكس على وجدانه أمنا وسلاما، فكان الوطن البديل الذي وجد فيه نفسه من خلال صفوة مختارة من المغاربة العاملين في حقل التدريس، وكان التجاوب عاملا مؤثرا في توطيد العلاقة الأخوية التي عرفها في مغتربه من خلال هؤلاء الأساتذة الذين وحد بينهم التدريس على صعيد الأخوة والصداقة.
يقول علي الأحمد واصفا حبه للمغرب: “في هذه البيئة الكريمة نشأت علاقات وصاقات على أكرم ما تكون العلاقات ودا وصفاء. وقد انعكس هذا الأمر على أفراد أسرتي الذين وجدوا في المغرب ذواتهم ووطنهم، فكانوا سوريي الجنسية، مغاربة الروح، كما وجدوا في أعراف المغرب وتقاليده وعاداته ومناسباته ما جعلهم يعيشون الحياة كمغاربة في جميع المظاهر والأشكال، فاللسان مغربي، واللباس مغربي، والأكل مغربي، والتفاعل مع المناسبات مغربي؛ فهم بحكم الألفة والصداقات مغاربة الروح والمنشأ”.
ثم يستطرد المتحدث: “كانت بدايات الاغتراب ذات صعوبة يلقاها كل وافد على المغرب؛ فاختلاف اللهجات، واختلاف مدلول بعض الكلام، واختلاف العادات والمناسبات، كل ذلك كان عاملا سلبيا في الاخبار السعودية في السنة الأولى من الإقامة بالمغرب، ثم بدأ التآلف والتجانس والتعامل الكريم الذي خفف من وطأة المعاناة في هذا الاغتراب”.
ليست هذه التجربة بعيدة عن المغتربين، فغالبيتهم عاشوا الظروف نفسها، وعانوا من بعض المشاكل على صعيد الاخبار السعودية في البدايات، وشيئا فشيئا بدأ ينقشع هذا الواقع عن عالم جديد يرتاح فيه المقيم في المغرب ارتياحا نفسيا، وفكريا، وروحيا، لما اتصف به البلد من خصال ومناقب قلما يوجد مثلها في بقية البلدان.
إن قصة المغترب السوري غيض من فيض عانى منه السوريون معاناة شديدة الوقع على النفس والروح، بفعل سياسة الإرهاب والتسلط الأسدي على العباد والبلاد، ولئن كانت هذه القصة، قصة الاغتراب القسري، فيها من التفاؤل والإيجابية أكثر من غيرها فهناك آلاف القصص الدامية التي تركت آثارها على من عاشها حرمانا أو موتا أو غرقا أو اعتقالا؛ فكانت الحال التي عاشها السوريون فريدة من نوعها على الصعيد الإنساني قاطبة.