اخبار المغرب

هكذا انتقلت “ثورة الملك والشعب” من الاحتجاجات إلى المقاومة المسلحة

كيف انتقلت “ثورة الملك والشعب” من العمل السياسي إلى المقاومة المسلحة بعد نفي الاحتلال الأجنبي السلطان محمدا الخامس، بحجة انحيازه لمطالبِ “السيادة الوطنية” وأفق الاستقلال اللذين جمعا أحزابا وأسماء مغربية ومغاربية وأجنبية من مختلف المشارب والطبقات؟.

يقول السياسي المدافع عن الاستقلال محمد بلحسن الوزاني في الجزء الخامس من كتاباته الصحافية الكاملة المعونة بـ”حرب القلم” إن محمدا بن يوسف، الذي سيعرف بمحمد الخامس بعد ذلك، “عرفه شعبه، كما عرفه غيره، ملكا وطنيا مكافحا مضحيا بنفسه وبكل عزيز عليه، في سبيل الوطن والشعب، وكما أخلص لوطنه وشعبه فكذلك بادله وطنه وشعبه حبا بحب، وإخلاصا بإخلاص، ووفاء بوفاء، قلما يعرف له مثيل في الماضي والحاضر”.

ويزيد الوزاني: “لستُ مبالغا إذا ما قلت إن المحنة الكبرى التي امتحن بها من العدوان الاستعماري على عرشه، وشخصه وأسرته، وفي هذا كله عدوان على المغرب وأمته، قد جعلت ملكنا المحبوب يضرب بموقفه الرائع، وثباته القوي، أعظم مثل في الكفاح والتضحية، اللذين قدرهما الشعب حق قدرهما فضرب هو بدوره من أجل الملك والعرش، وفي سبيل الحرية والاستقلال، مثلا لا يقل روعة عما سجله التاريخ من مفاخر ومعجزات للشعوب في ثوراتها التحريرية الكبرى، ولم يكن من شأن هذا وذاك، كفاح وتضحية الملك والشعب معا، إلا أن يعجل لهما بالفوز والنصر المبين، الفوز بعودة الملك إلى عرشه، والنصر بتحقيق استقلال الوطن”.

وفي كتاب “المغرب.. السنوات الحرجة” يحكي المهدي بنونة، رائد الإعلام بالمغرب والسياسي ثم الدبلوماسي، كيف شارك السياسي والدبلوماسي بعد ذلك أحمد بلافريج بجواز سفر باكستاني، ودعم لبناني، في جلسة لمجلس الأمن بالولايات المتحدة الأمريكية، من أجل إدراج قضية نفي محمد الخامس ضمن جدول أعمال المجلس بالأمم المتحدة بوصفها تهديدا للسلام والأمن الدوليين؛ ثم “بعد مناقشة استمرت سبعة أيام رفض مجلس الأمن تسجيل القضية على جدول أعماله، وصوت ضد تسجيلها كل من فرنسا، والولايات المتحدة، وبريطانيا، والدانمارك، وكولومبيا… بينما صوت لصالح تسجيلها الاتحاد السوفياتي، الصين (تايوان)، باكستان، لبنان، وشيلي، فيما امتنعت اليونان عن التصويت. وبما أن الأصوات جاءت متعادلة فإن النظام الداخلي ينص على عدم تسجيل القضية المطروحة للنقاش”.

وأردف بنونة: “عقب التصويت علق مندوب باكستان قائلا: ‘لا يمكن لشعوب آسيا وإفريقيا إلا أن تشعر بالخيبة إزاء عدم التزام الدول الكبرى بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ولجوئها دائما إلى تفسير بنود الميثاق بما يتماشى مع مصالحها وسياساتها. إن خيبة الأمل لا بد أن تؤدي إلى فقد الثقة في الأمم المتحدة، طالما أن الدول الكبرى هي التي وضعت الميثاق، وهي التي تتجاهله… خدمة لمصالحها العابرة’”.

ويشهد المهدي بنونة على تنظيم “مكتب المغرب” بنيويورك الأمريكية ندوة صحافية قال فيها أحمد بلافريج، الأمين العام لحزب الاستقلال آنذاك: “إن موقف بعض الدول الكبرى حرم الشعب المغربي ومعه 15 دولة إفريقية وآسيوية من عرض وجهة نظره، وهي مسألة تشين سمعة الأمم المتحدة. الذي نطلبه هو حوار لا بد أن يؤدي إلى الوصول إلى حلول مقبولة من الجانبين. إن موقف الدول الكبرى يشجع فرنسا على مواصلة سياساتها الاستعمارية القائمة على القمع واستعمال القوة، الأمر الذي سيدفع المغاربة للثورة، والبحث عن حلول اليائسين!”.

وهكذا كان ما يحكيه الفقيه والأديب عبد الله الجراري، في كتابه “حياة بطل التحرير محمد الخامس”، الذي وثق المظاهرات والإضرابات الجماهيرية، واعتصامات فقهاء وتوقيفهم، والاستقالات في صفوف مسؤولين أبرزهم امبارك البكاي، وكون “الفداء يشتد ويتقوى” بعد نفي السلطان، وقدم أمثلة لانتقال امتداد “يد الفدائيين للخونة والمارقين تحت أستار الليل وسواده” إلى العمليات المنظمة، “ومن أشد ذلك وأنكاه للفرنسيين ما وقع بالسوق البلدي بالبيضاء، يوم الخميس 24 دجنبر 1953″؛ ومن بين ما ذكره من أمثلة عديدة: “قُرطسَ الفقيه أحمد ابن جلون نائب رئيس المحكمة العليا برصاصات نقل إثرها إلى المستشفى، ولعل الفاعل مدفوع بكون المقرطس ابن جلون من الذين يجارون السياسة الاستعمارية في إصدار الأحكام القاسية على المتهمين في ميدان الفداء من أبناء البلاد”.

ومن بين ما وثقه الجراري ما حدث “أوائل شتنبر من سنة 1954″، إذ “توجهت وفود من المغرب، مؤلفة من مسلمين ويهود صحبة وطنيين، قصد المذاكرة مع رئيس شؤون ‘إفريقيا’ رجاء الوصول إلى حل يخفف الوطأة، ويعالج الأزمة المغربية التي لا حل لها إلا بإعادة صاحب العرش الشرعي”.

ومن المحطات المؤلمة التي أرخ لها عبد الله الجراري المظاهرات العارمة التي “قامت بتاريخ 20 غشت 1955 بعدة مدن”، من بينها أبي الجعد، والصويرة، وابن أحمد، والدار البيضاء، والرباط، وملحقاته كدوار الدوم، وزاد: “وبوادي زم دارت في ترابه مذبحة شائنة لا ينساها التاريخ، ولا تجف دماؤها البريئة من مخيلة أبطال المغرب الأباة”.

ثم استرسل الأديب قائلا: “لا يكاد ينسى التاريخ الصادق الفضائح المحزنة، والحوادث المؤسفة التي غمرت نيرانها وطم بحران من دمائها على نواح بكاملها من أرض هذا الوطن المقدس الذي قاسى الويلات، وعرف فظائع الاستعمار الوحشية التي تنفطر لمآسيها الأكباد، ويشيب لهولها الولدان نواحي وادي زم، وتادلة، وخنيفرة. والواقع أن القوات العسكرية الفرنسية المسلحة اغتنمت فرصة الاستفزاز الدافع للمذابح وإراقة الدماء التي أثارها المدنيون الفرنسيون القاطنون في هذه النواحي يوم 20 غشت 1955، وقد برهنت مرة أخرى على أن مقاصد النظام الاستبدادي والاستعماري تتنافى ومصلحة البلاد المقدسة”.

وسجل الجراري امتداد “يد العدوان الغاشم إلى الآلاف والآلاف من المواطنين الأبرياء رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا، فسامتهم بسلاحها سوء العذاب، وقاسوا كلهم الويلات، وعانوا مختلف ألوان التنكيل، فمنهم من سقط صريع الاضطهاد، ومنهم من اخترقته القاذفات، ومنهم من التهمته النيران وهو حي يرى، وهكذا انمحت قرى بكاملها من البلاد، وانطوت صفحة ماجدة من تاريخ الاستشهاد”.