“بأس جنين”.. التحدي الأكبر في مواجهة آلة الحرب الصهيونية
عشرات الغارات الجوية استهدفت عدة مواقع داخل مخيّم جنين، كانت إشارة البدء لانطلاق عملية عسكرية لجيش الاحتلال تستهدف القضاء على بنية المقاومة في مخيّم جنين، الذي زحفت باتجاهه المئات من آليات جيش الاحتلال على اختلاف أحجامها وأوزانها بدءاً من الجيبات مروراً بناقلات الجند وليس انتهاء بالجرافات المدرّعة والمجنزرة.
بدأ الاحتلال عدوانه الإجرامي باستهداف ناري كثيف سعى من خلاله إلى توجيه ضربة أولى ناجحة لخلق أوسع حالة إرباك في صفوف المقاومة وحاضنتها الشعبية داخل المخيّم، حيث استهدف مواقع يدّعي أنّها غرف القيادة والسيطرة وإدارة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة الناشطة داخل المخيّم.
رغم حجم الضربة الأولى القوية والمفاجئة، إلا أنّ آثارها لم تكن كما خطّط الاحتلال، في ما يبدو أنّ مقاومي جنين قد أعدّوا أنفسهم للتعامل مع مثل هذا السيناريو الغادر، ونجحوا في امتصاص الضربة الأولى والحفاظ على تماسك الصفوف.
نفّذ الاحتلال عمليته العسكرية الإجرامية بحقّ مخيّم جنين بعد فترة لا بأس بها من المد والجزر حول الجدوى والأثر من مثل هذه العملية العسكرية، وحجمها وحدودها، خصوصاً مع حساسية وضع السلطة وشرعيتها المتآكلة، ومدى جدوى مثل هذه العملية في استئصال فكرة الاشتباك المتصاعد في الضفة الغربية.
ساهمت التطورات الأخيرة، خصوصاً معادلة العبوات الناسفة النوعية وزيادة جرأة وتنظيم المقاومين، في ترجيح الكفة التي تؤيّد تنفيذ العملية العسكرية، مع الإشارة إلى أنّها عملية لن تستهدف سوى بقعة جغرافية واحدة حددها الاحتلال على أنّها مخيّم جنين، لعدة اعتبارات أهمها: رمزية وأهمية المخيّم في تجديد ثقافة الاشتباك في الضفة عموماً خلال العامين الماضيين، إضافة لعدد المقاتلين وتماسكهم وتصلب بناهم وتطور فعلهم، وعدم نجاح أدوات التفكيك الأخرى سواء عبر الترهيب أو الترغيب بما فيها معادلة التسليم للأجهزة الأمنية للسلطة مقابل التوظيف والعفو.
تحمل عملية الاحتلال في طياتها عدداً من الأهداف التي يسعى الاحتلال إلى تحقيقها عبر عدوانه الإجرامي على مخيّم جنين، حيث يهدف عملياتياً إلى القضاء على البنية التحتية والبيئة الآمنة والتجهيزات اللوجستية التي نجح مقاتلو كتيبة جنين والأجنحة العسكرية الفاعلة في المخيّم في إنجازها خلال العامين الماضيين، وساهمت في خلق بقعة جغرافية آمنة نسبياً لتحرك المقاومين وتعاظم أفعالهم.
في ذات الجانب، يهدف جيش الاحتلال إلى تحييد (اعتقال أو اغتيال) أكبر عدد ممكن من المقاومين خلال العدوان على جنين، وجمع أكبر كمية ممكنة من السلاح المنتشر في المخيّم وبين أيادي المقاومين الناشطين داخله.
من جهة أخرى، يهدف الاحتلال من خلف رفعه لوتيرة وحجم استخدام القوة النارية والاستعانة بالاستهداف من الجو عبر الطيران المروحي والمُسيّر، إلى خلق حالة من الصدمة تهدف إلى كي وعي الجمهور واستعادة صور الدمار وقدرة الآلة العسكرية للاحتلال على إحداثه، ورفع كلفة الخسائر في الأرواح والممتلكات بقوة نارية تفوق كثيراً حجم ما يحتاجه المخيّم المحصور في بقعة جغرافية لا تتجاوز النصف كيلو متر مربع، بهدف إعادة ترسيخ صور “كي الوعي” في عقل الجيل الفلسطيني الجديد الذي قرر حمل البندقية وإعادة الاعتبار لثقافة الاشتباك المسلح، وهي ثقافة يسعى الاحتلال لتحقيق أكبر “ردع” ممكن في مواجهتها، عبر قمع الفكرة داخل عقول الشبان وتعظيم الخسائر في مجتمعهم وبين ذويهم.
في ذات الإطار، يسعى الاحتلال لتحويل جنين إلى “عبرة” لمواقع نشاط المقاومة الأخرى، يمارس عبرها الضغوط على بيئتهم ويعطي خصوم المقاومة مادة للضغط على المقاومين تحت مبرر تجنيب مناطقهم دمار مشابه، والعمل على فكفكة هذه الحالة عبر “الردع المسبق” وكي الوعي لديهم ولدى ذويهم ومجتمعهم.
لا يريد الاحتلال للعملية العسكرية في مخيّم جنين أن تأخذ وقتاً طويلا، ويسعى لتحقيق أهدافها في أسرع وقت ممكن بأقل خسائر ممكنة، وهو يعني تماماً أنّه كلما طالت المدة كلما كانت الكلفة أكبر ميدانياً داخل المخيّم، وفي ارتدادات العدوان على مناطق الضفة الأخرى، وساحات الفعل الفلسطيني خارج الضفة الغربية، خصوصاً وأنّ معادلة “وحدة الساحات” لا تزال حاضرة رغم كل محاولات الاحتلال لقمعها والقضاء عليها وتفتيتها.
كلمة السر في إفشال أهداف العدوان على جنين تتمثّل في الفعل الفلسطيني، ليس في جنين، فأبناء جنين قابضون على الجمر، مقاومون مشتبكون، بل إنّ الفعل المطلوب يستهدف باقي مكونات الشعب الفلسطيني، الذين عليهم اليوم التحرك وتحويل العدوان على جنين، إلى الشعلة التي تطلق فعلاً انتفاضياً واسعاً في كل الأراضي الفلسطينية، وإشعال كل نقاط الاشتباك والمواجهة، وتحويل كل ساحات فلسطين إلى جنين.
إن ترك جنين في ساحة المواجهة وحيدة، يعني الحكم بنجاح أهداف الاحتلال في ضرب النموذج الذي شكّلته جنين على مدار العامين السابقين، وتفتيت رمزية جنين في الوجدان الفلسطيني، كنموذج للمقاومة والاشتباك والمواجهة، ولذلك فالمطلوب اليوم التداعي لتحريك كافة شرائح وأوجه الفعل الجماهيري والشعبي والمقاوم للانتصار لجنين.
من جهة أخرى، المقاومة أمام اختبار عملي لمعادلة “وحدة الساحات” وتكامل الفعل المقاوم الفلسطيني، وعدم السماح بالاستفراد بأي بقعة فلسطينية، وبالرغم من صعوبة الحسابات ودقتها، إلا أنّ الإنجاز الاستراتيجي يتمثّل بمنع الاحتلال من تحقيق أهدافه بقمع حالة المقاومة الناشئة والمتصاعدة في الضفة الغربية، وهو ما يتطلب من قوى المقاومة البحث عن الشكل الأجدى والأكثر فعالية لحماية هذه المقاومة وتشكيل درع لها في وجه آل الحرب الصهيونية الإجرامية وشلال الدم الفلسطيني النازف.