تغيير المحافظين: السلطة تبحث عن ترميم دورها وصورتها
عبر مرسوم رئاسي، أحال رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس معظم محافظي السلطة في محافظات الضفة الغربية وقطاع غزة إلى التقاعد. وشمل المرسوم، كلاً من محافظي: جنين، نابلس، قلقيلية، طولكرم، بيت لحم، الخليل، طوباس، أريحا والأغوار، شمال غزة، غزة، خان يونس ورفح. وتشكيل لجنة رئاسية، تضمّ عدداً من الشخصيات القيادية ذات الاختصاص، لاختيار مرشحين لشغل المناصب الشاغرة، ثمّ تقديم قائمة المرشحين إلى الرئيس لإصدار قرار بشأنها.
قرار الإقالة أو الإحالة للتقاعد الذي أثار استياء المحافظين المُقالين الذي عرفوا عنه من وكالة الأنباء الرسمية “وفا” دون إشعارهم المسبق، لم يثر في الشارع الفلسطيني سوى موجة من السخرية عند البعض، واللامبالاة عند البعض الآخر، لأنّ المحافظين المُقالين هم بالغالب إما غائبين عن أي دور فعلي، أو سيئي الصيت والسمعة ومتورطين في الاعتقالات السياسية والقمع وحتى ملاحقة بعضهم للمقاومين، ومنهم أصحاب التصريحات المسيئة للمقاومة وأمهات الشهداء.
التشكيك بالسلطة والحديث عن فسادها
قرار رئيس السلطة بإقالة المحافظين، أو ما يجري تداوله من تسريبات حول كون الإقالات لن تكون الأخيرة وهي ضمن سلسلة من خطوات مشابهة ستطال شخصيات مفصلية أخرى، وصولاً للحديث عن تغيير حكومي قد يشمل الحكومة كاملة أو جزءاً منها، لا يمكن فصله عن تصاعد خطاب التشكيك في قدرات السلطة وفعالياتها في أوساط إقليمية ودولية.
الحديث عن فساد السلطة ورموزها وضعف دورها والانفضاض الشعبي من حولها ليس جديدا، إلا أنّ اللافت كان تطرق الرئيس الأمريكي جو بايدن علانية إلى تناوله باعتبار السلطة جزءاً من المشكلة في الضفة الغربية، حيث صرّح خلال مقابلة عبر قناة (سي أن أن) الأمريكية، أنّ “السلطة الفلسطينية لم يعد لديها أي مصداقية وجميع المشاكل في الضفة الغربية ليست سببها إسرائيل”، وفق تعبيره. وتابع خلال حديثه أنّ هذا الأمر “خلق فراغاً للتطرف في أوساط الفلسطينيين، فالمشكلة حالياً في الضفة ليست إسرائيل فقط، وإنّما السلطة شريكة بالأمر”.
التقييم حول ضعف السلطة وتراجع دورها لا يحمله بايدن منفردا، بل يشاركه إياه الاتحاد الأوروبي، وتعيه تماماً الدول الأكثر التصاقاً بالسلطة وفي مقدمتهم مصر والأردن اللتان تشرفان بشكل مباشر على الترتيبات الأمنية التي جرى الاتفاق عليها في اجتماعي العقبة شرم الشيخ إذ شمل تقييماً لدور السلطة وفعاليتها والخطوات اللازمة لدعمها في مواجهة تصاعد الأوضاع الميدانية.
تعي قيادة السلطة الفلسطينية تماماً أهمية استعادة الثقة وإثبات فعالياتها للاعبين الدوليين وقدرتها على الإيفاء بالتزاماتها وممارسة الدور المنوط بها، وإلا سيكون مصيرها إما قراراً بتجاوزها، أو التدخل القصري لإحداث تغييرات مباشرة في هرم القيادة بشكل أو بآخر على غرار ما جرى بعد انتفاضة الأقصى، إذ هندست الولايات المتحدة وشركاؤها بالتنسيق مع كيان الاحتلال القيادة الجديدة للسلطة بما يضمن أفضل النتائج في دور السلطة الأمني وإنهاء الانتفاضة واستخلاص العبر منها.
تجديد الشرعيات واستعادة الثقة
تحتاج قيادة السلطة إلى صيغ بديلة عن الانتخابات لتجديد شرعيتها وتعزيز حضورها الشعبي، وهذا لا ينفصل عن دعوة رئيس السلطة لانعقاد اجتماع الأمناء العامين الذي لم ينجح في الخروج بأي نتيجة حقيقية سوى الصورة التي أرادها الرئيس لأن يكون على رأس اجتماع بحضور كافة فصائل العمل الوطني والإسلامي الفلسطيني، بمعارضتها وموالاتها، المنطوية داخل منظمة التحرير والتي خارجها.
ولذات الهدف، نظّم الرئيس أيضاً زيارته لمخيّم جنين، وحشدت السلطة عساكرها بلبساهم الرسمي والمدني لتكون في استقباله، ليؤكد فيها أنّه ما زال رئيساً وما زالت سلطته بخير ويستطيع الوصول لأي بقعة من الضفة الغربية ويُستقبل استقبال الرؤساء أصحاب الشرعية الشعبية، وأنّ كل الحديث عن فقدان السلطة لشعبيتها وحضورها هو عارٍ عن الصحة.
في ذات الإطار، سعت السلطة لتجديد شرعيتها بالتخلص من جزء من عناوين الاحتكاك المباشر مع الجمهور واستبدالهم بعناوين جديدة، وبالغالب ستكون عناوين أكثر قرباً من الجمهور، وبدعم واسع من قيادة السلطة المؤثرة ليتمكنوا من تعزيز حضورهم وحضور السلطة في المحافل الشعبية، لترميم ما تبقّى من شرعية مهدورة.
هذه الشرعية التي يعمل أبو مازن وفريقه الرئاسي على استعادتها والتأكيد عليها، هي مطلب رئيسي لتحصل السلطة على الدعم الذي تطمح به كجزء من مخرجات الترتيبات الأمريكية الإسرائيلية من أجل خفض التصعيد وتعزيز السلطة.
تعزيز القبضة الأمنية
يشكّل المحافظ وفق الترتيب الهرمي للسلطة، عنواناً للسلطة التنفيذية في المحافظة التي يديرها، ويقع من ضمن اختصاصاته المتابعة مع الأجهزة الأمنية، وإدارة مقدّرات السلطة التنفيذية ضمن نطاق المحافظة الجغرافي، وبالتالي، فإنّ حجم السيطرة وقوة القبضة الأمنية للسلطة تتغير من موقع لآخر ارتباطاً بقوة المحافظ وقدرته على تنفيذ دوره على رأس محافظته.
وفي إطار سعي السلطة لإعادة بسط سيطرتها الأمنية في مواجهة توسُّع حالة المقاومة المسلحة وتصاعد تشكيلات المقاومة وكتائبها في الضفة الغربية، وعدم قدرة المحافظين المُقالين على مواجهة هذا التصاعد وفرض السيطرة الأمنية في محافظاتهم، أصبحت الحاجة لإزاحتهم وإفساح المجال أمام شخصيات جديدة لتنفيذ المتطلبات الأمنية الجديدة هي حاجة مُلحة.
في ظل التصاعد الكبير في النشاط الأمني لأجهزة السلطة في ملاحقة المقاومين وتكثيف نشاطها في شمال الضفة الغربية، وتصعيد الاعتقالات السياسية سعياً لإثبات جدارتها في التسهيلات الاقتصادية المُنتظرة من حكومة الاحتلال بترتيبات وضغط أمريكي، فإنّ المشهد يحتاج لاكتمال بتثبيت عناوين قوية على رأس منظومة السلطة التنفيذية.
استكمال مسار العقبة شرم الشيخ
تتحدث المصادر العبرية عن الترتيبات الجارية على قدم وساق من أجل عقد اجتماع أمني جديد استكمالاً لمسار العقبة شرم الشيخ بإشراف أمريكي ومشاركة كيان الاحتلال والسلطة ومصر والأردن، لإتمام الترتيبات الأمنية والاتفاق على المراحل الجديدة من خطة تقوية السلطة وإعادة سيطرتها على محافظات الضفة في مواجهة تصاعد المقاومة، مقابل التسهيلات الاقتصادية من حكومة الاحتلال.
هذا الاجتماع سيأتي بعد لقاءات مكوكية لخلايا المتابعة التي أفرزتهم اجتماعات العقبة وشرم الشيخ، والتي عملت على مدار الفترة السابقة من أجل انجاز كل الترتيبات اللازمة وتجاوز أي عقبات في طريق إتمام المخرجات المتفق عليها، والتي في جزء أساسي منها تعزيز السلطة، وبالأغلب شملت تقييمات لأداء ودور المحافظين والحاجة لتغييرهم قبل انعقاد الاجتماع الاستكمالي.
الجهوزية لصفقة كبرى مع السعودية
بالتأكيد، تتابع السلطة الفلسطينية التحرك السياسي الكبير بين السعودية والولايات المتحدة من أجل الوصول لصفقة كبرى تتضمن حصول المملكة السعودية على مجموعة من المطالب من ضمنها برنامج نووي وتسليح واتفاق تعاون أمني مع الولايات المتحدة، مقابل الابتعاد عن الصين والتطبيع مع كيان الاحتلال.
تعي السلطة الفلسطينية أنّ السعودية لن تذهب لمثل هذا الاتفاق الكبير بدون تحصيل بعض التحسينات على صعيد القضية الفلسطينية لحفظ ماء وجه المملكة وحفاظها على دور محوري في المنطقة، كما تعي أيضاً أنّها لا يمكن أن تُعطّل مثل هذا الاتفاق في حال قررت السعودية المضي فيه.
ومن هذا المنطلق، تبحث السلطة عن مكان في الصفقة المنشودة، وتهيئ نفسها وترمم شرعيتها لتتمكن من تحسين حضورها وزيادة فرص إشراكها في أي ترتيبات خاصة بالقضية الفلسطينية قد يقدّم كيان الاحتلال بشأنها تنازلات من أجل تحقيق التطبيع مع السعودية، وهو ما يدفعها لاتخاذ خطوات استباقية تعزز فيها حضورها، وتشمل أيضاً توسيع التنسيق مع مصر والأردن اللتين عقد رئيسها وعاهلها قمة ثلاثية مع رئيس السلطة لبحث التطورات في المنطقة، ومن ضمنها الحديث عن الصفقة السعودية، ودعم السلطة الفلسطينية.
كمحصلة، فإنّ خطوات السلطة تأتي في إطار بحثها عن الدفاع عن حضورها وإثبات جدارتها أمام اللاعبين الكبار في المنطقة واستعادة ثقة الولايات المتحدة، لتحافظ على حضورها وشريان الحياة لها المتمثّل بالدعم الأمريكي والتسهيلات الإسرائيلية والغطاء الإقليمي لدورها وحضورها.