شرارة التصعيد في المنطقة: “خطأ في التقدير”
في مشهد لافت وغير مُعتاد، وجّه حزب الله دعوة لوسائل الإعلام لتغطية مناورة عسكرية لمقاتليه حملت عنوان “سنعبُر” بمناسبة الذكرى الـ23 لتحرير الجنوب اللبناني، وقدّم الحزب خلال مناورته مشاهد لافتة أبرزها اجتياز الحدود وتفجير الجدار واستهداف آليات للاحتلال وخطف جنود من داخلها، في رسائل واضحة لما يُجهّز الحزب، في جعبته، للاحتلال بالفترة القادمة.
صدى المناورة كان واسعاً حيث نُقل الحديث في الدوائر المغلقة لمحللي ومقدّري الموقف لدى الاحتلال وأجهزة استخباراته وقيادته إلى العلن، فالمنطقة تتغير، والمقاومة تتقدّم ودوائر فعلها تتوسع، والاحتلال بات يشعر بوضوح أنّ المعادلات تنقلب ولم تعد لـ”إسرائيل” اليد العليا في مواجهة خصومها.
بعد 23 عام على المشهد الذي دشّن نهاية زمن الانتصارات للاحتلال، وبداية زمن الانحسار والتراجع، تضج المحافل الأمنية في “إسرائيل” في الحديث عن الإشارات الساخنة وعن مدى نجاعة سياساته منذ سنوات التي أدعى مراراً أنّها ناجحة في تقويض قدرات المقاومة، وبشكل خاص سياساته “المعركة بين الحروب” التي نفّذ ضمنها مئات الغارات في السنوات العشر الأخيرة.
تهديدات متلاحقة
يقف رئيس شعبة الاستخبارات اللواء أهارون حليفا في مؤتمر الأمن القومي الإسرائيلي في جامعة رايخمان العبرية، مقدّماً تحذيراً استراتيجياً بأنّ “المواجهة مع حزب الله هي سيناريو مرجّح، نظراً لأحداث الأشهر القليلة الماضية، وهناك بداية لفهم بأنّه يمكن تغيير المعادلات مع “إسرائيل”، فقصة المسلّح في مجدو ليست محددة، ونصر الله يقترب من ارتكاب خطأ قد يقودنا إلى معركة كبرى”.
لم يكن حديث رئيس شعبة الاستخبارات بمعزل عن تصريحات لقادة أبرز في كيان الاحتلال، فرئيس وزراء الاحتلال أطلّ في شريط مصوّر خلال جولة استعرض خلالها قدرات السايبر والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في جيش الاحتلال، مؤكداً أنّ جيشه يمتلك قدرات “تفوق الخيال” ويمكنّه الوصول لخصوم الاحتلال ومفاجأتهم بشكل دائم، مستعرضاً نجاح الجيش في الوصول لقادة الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي.
في ما تحدّث رئيس أركان جيش الاحتلال هرتسي هاليفي في ذات المؤتمر الأمني قائلاً إنّ حزب الله “يعتقد أنّه يفهمنا، وهذا يدفعه إلى الجرأة وتحدّينا حيث يكون متأكداً من أنّه لن يؤدي إلى حرب. أرى أنّ هذا مسار جيد لخلق المفاجآت إذا لزم الأمر”، مشيراً إلى أنّ “أي معركة في الساحة الشمالية على الجبهة الداخلية ستكون صعبة”.
المقاومة ترد، بالتصريح والميدان ووحدة الجبهات
لم يفوّت السيد حسن نصر الله لقادة الاحتلال حفلة التهديدات التي طالت في ما طالت التهديد المباشر باستهدافه شخصيا، فأطلّ في كلمته بمناسبة ذكرى التحرير، محذّراً “إسرائيل” أنّها هي من يجب أن يخشى اندلاع حرب كبرى في المنطقة، رافعاً سقف المواجهة مؤكداً تطور حلف المقاومة بقوله: “إنّ على “إسرائيل” ألا تخطئ التقدير وألا ترتكب أي خطأ في أي بلد في المنطقة، لأنّ ذلك قد يؤدي إلى حرب كبرى ويفجّر المنطقة”.
حمل خطاب السيد حسن دلالات واضحة، أنّ أي سلوك متهور للاحتلال، لن يبقى حبيس مكانه في المواجهة، وبحث الاحتلال عن انتصارات صغيرة يرمم فيها ردعه المهدور عبر توجيه ضربات لمكوّن من مكونات محور المقاومة، لن يستطيع الاحتلال التحكم في ارتداداته وسبل الرد عليه ومساحة الفعل في مواجهته، فما يحدث في غزة أو بيروت أو دمشق أو صنعاء وبغداد، أو طهران لن يكون بمعزل عن بعضه، والمعادلات الجديدة باتت واقعا.
وميدانيا، لم تكن المقاومة الإسلامية في لبنان بمعزل عن خطاب قائدها، فأعلنت عن مناورة جديدة تحاكي فيها سيناريو “تحرير فلسطين” وحملت اسم “الفتح المبين”، تقدّم فيها قوات الحزب نموذجاً صغيراً عن استعدادها للانتقال من مرحلة الدفاع لمرحلة الهجوم، ونقل المعركة إلى الأراضي المحتلة.
تحليلات متلاحقة في الإعلام العبري
في تعقيبه على إشارات التوتر في المنطقة، يقول الخبير العسكري الإسرائيلي يوسي يهوشع بمقالة نشرتها صحيفة “يديعوت أحرنوت” العبرية أنّه منذ أكثر من عقد، يتحدّث نصر الله عن الانتقال من “المدافع عن لبنان” إلى “غازي الجليل” أنّه “لا ينوي إرسال كتائب تصل إلى عكا، بل وحدات خاصة تتسلل إلى المستوطنات على طول الخط الحدودي، لسوء الحظ هذا ليس الأمر معقداً حقاً عندما تكون تجلس مع القوات على السياج، والآن أصبحت قوة الرضوان في المنطقة”.
لا يرى يهوشع في مقاله أنّه يجب الاستهانة بما قدّمه رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في مؤتمر هرتسيليا، قائلا: “هذا تصريح يجب أن يؤخذ على محمل الجد عندما يخرج من فم (مقدّر الموقف القومي)، من المحتمل أنّه إذا قال شيئاً مهماً جداً في الأماكن العامة، فإنّه يعتمد على مواد استخباراتية، لعله يحاول إحباط عمل مستقبلي ضد “إسرائيل”، في البيان نفسه”.
يُقرّ المحللون الإسرائيليون أنّه لا منطق عقلاني في الذهاب لمواجهة مع حزب الله قد لا تُعرف عقباها ولا حدودها، إلا أنّهم أيضاً يعون بوضوح أنّ جرأة المقاومة وخطواتها الميدانية تخلق واقعاً جديداً سيكون على “إسرائيل” التعامل معه مستقبلا، وأنّ تبدُّد “الردع” سيكون مكلفاً لا محالة.
اللواء احتياط في جيش الاحتلال تامير هايمان تحدّث باستفاضة في تقرير للقناة 12 العبرية حول تعقيدات المشهد الأمني الناشئ، موضحاً أنّه “منذ فترة طويلة ونحن نلاحظ التغيير الذي يحدث لنصر الله، في معهد دراسات الأمن القومي (INSS) يُوصف ذلك: (شعور زائد ومبالغ فيه بالثقة بالنفس لدى حسن نصر الله)، هذا الشعور به خطر لأنّه قد يؤدي به إلى سوء تقدير (رد فعل “إسرائيل” المتوقع)، إذا ما عاد وحاول مهاجمتها، في الماضي الخطأ عندما خاطر، وهو خطأ أدى إلى حرب لبنان الثانية”.
يرى هايمان في ذات الحديث أنّ حزب الله يفهم تجنُّب “إسرائيل” الرد على الهجمات المنطلقة من لبنان، وعدم مهاجمة مراكز قوته رداً عليها، أنّها معادلة “ردع متبادل”، ويعتبر أنّ هذا الوضع يمكن أن يخلق تقييماً خاطئا، مما سيقود إلى حساب مخاطر غير صحيح يؤدي إلى موقف متصاعد ينتهي بسيناريو متطرف: “الحرب”.
ويوصي اللواء احتياط بوضع حد للجرأة المتصاعدة للمقاومة في المنطقة، وبشكل خاص حزب الله، وذلك عبر الرد بشكل مفاجئ يفوق توقعات المقاومة ويرفع الثمن الباهظ الذي ستدفعه إذا أخطأت التقدير مرة أخرى، ويُتبع توصيته بضرورة أن يسير هذا الإجراء الإسرائيلي على “خط رفيع للغاية بين تعزيز الردع وتجنُّب حرب شاملة”.
لا تختلف غالبية التحليلات مع ما كتبه البروفسور الإسرائيلي إيال سيزر في صحيفة يسرائيل هيوم حول أنّ “الحرب مع حزب الله ليست لعبة أطفال، وهي بالتأكيد ليست تكراراً للاغتيالات الناجحة التي نفّذتها “إسرائيل” ضد الجهاد الإسلامي في غزة”، وهو ما يضرب صُلب دعاية نتنياهو الذي أطلق تهديداته مستعرضاً إنجازات جيشه في عدوانه الأخيرة على قطاع غزة في محاولة تثبيت صورة “انتصار شكلي”، وهي صورة استطاعت المقاومة منعه من صنعها كانتصار يخطفه منذ اليوم الأول، وحوّلته لمواجهة استمرت لـ5 أيام أمطرت فيها الأراضي المحتلة بمئات الصواريخ.
“خطأ في التقدير” قد يُشعل الجبهات
بالرغم من أنّ كل الأطراف غير معنيين بمواجهة واسعة، ورفع وتيرة التهديدات والمناورات على الطرفين هي رسائل جوهرها “الردع” و”الردع المتبادل” إلا أنّ نجاح حزب الله في تثبيت معادلات جديدة في “المعركة بين الحروب المضادة” في لبنان وسعيه إلى توسيع مفاعليها إلى باقي مكونات المحور، إضافة لتدشين معادلات الاشتباك الجديدة ونشاط المقاومة الفلسطينية على الحدود الشمالية مع فلسطين المحتلة، فإنّ معادلات “التقدير الخاطئ” تتصاعد ويمكن أن تتدحرج بأي وقت.
وهو تماماً ما عبر عنه الكاتب الإسرائيلي عوفر شيلح في صحيفة يديعوت احرنوت مستعرضاً أنّ الحروب منذ عشرات السنين لا تنشب لأنّ أحداً ما قرر أو حتى بأنّ أحداً ما أخطأ، لكنّ الحروب الأخيرة بما فيها لبنان الثانية وصلت من خلال الرد والرد المضاد.
يضيف شيلح: “إنّ تجمُّع كل هذه الظروف من شأنه أن يجلبنا، دون أي نية مسبقة، ليس فقط إلى اشتعال مع حزب الله بل إلى تحقيق سيناريو حرب متعددة الجبهات في الضفة، وعلى الحدود، بالنار من بعيد بل وربما من داخل “إسرائيل” نفسها، مثلما حصل في أيار/مايو 2021، غير أنّه بينما تتحدّث الجهات الأمنية عن ذلك لا يبدو أنّ الاستنتاجات الواجبة في مجال السياسة، وبناء القوة وإعدادها تُبحث على الإطلاق”.