“عربات جدعون” تتعثر في خانيونس: فشل ميداني وعمق مقاوم

غزة خاص قدس الإخبارية: رغم أن جولة الاشتباك الواسعة التي اندلعت بين إيران والاحتلال الإسرائيلي قد جذبت الأنظار وأزاحت الاهتمام مؤقتًا عن المتابعة الميدانية لما يجري في قطاع غزة، إلا أن هناك عينًا يقظة لم تغفل للحظة عن رصد تحركات جيش الاحتلال، تترقّب اللحظة المناسبة لتوجيه الضربات، ورفع الكلفة عن كل دقيقة يمكثها هذا الجيش الغاصب على أراضي غزة.
في القطاع، لم تهدأ ضربات المقاومة، ولم تُسكت بنادقها. إذ واصلت اعتماد تكتيك الإغارة المباغتة على القوات المتوغلة، بأسلوب لم يتمكّن الاحتلال حتى الآن من تفكيك نمطه، أو كشف خفاياه: لا العمل، ولا شكل البنية التحتية، ولا طبيعة المقاتلين الذين ينجحون في تنفيذ عمليات عالية الكفاءة، رغم مرور أكثر من عشرين شهرًا على حرب ضارية استهدفت خلالها آلة الحرب الصهيونية كل بقعة في قطاع غزة.
ورغم أن مشهد البطولة المقاوِم يلفّ القطاع من شماله إلى جنوبه، ويكاد لا يخلو محور توغل إسرائيلي من فعل مقاوم نوعي، إلا أن العمليات الأخيرة في محافظة خانيونس حملت طابعًا خاصًا ودلالة استراتيجية لافتة، نظرًا لطبيعة الهجوم الإسرائيلي الكثيف على المدينة، التي تُعدّ ثاني أكبر مدن القطاع من حيث المساحة بعد مدينة غزة، ويصنفها الاحتلال كمركز رئيسي من مراكز القيادة والسيطرة التابعة للمقاومة.
هجوم مباغت وواسع
أحاط الاحتلال عمليته العدوانية الجديدة، التي حملت اسم “عربات جدعون”، بهالة دعائية واسعة، تحدث فيها عن “الحسم القريب”، وروّج لقدرات تدميرية استثنائية ستضمن السيطرة الكاملة على مناطق واسعة من قطاع غزة وتحويلها إلى مناطق “مُطهّرة” أمنيًا.
وعلى أرض الواقع، كانت محافظة خانيونس هي ساحة الهجوم المباغت الأوسع، وقد بدأت العملية فعليًا في أبريل 2025، عبر هجمات جوية وبرية مكثفة، استهدفت المناطق الشرقية من المحافظة، وتركزت بشكل خاص في القرارة، عبسان الكبيرة، خزاعة، ومحور صلاح الدين، حيث سُجل دمار واسع النطاق وتقدم بري تحت غطاء ناري كثيف.
في 18 مايو 2025، أصدر جيش الاحتلال أوامر إخلاء واسعة لسكان المناطق الشرقية من خانيونس، طالبًا منهم التوجه إلى منطقة المواصي غربًا. وشملت المناطق المستهدفة بالأوامر كلاً من خزاعة، عبسان الكبيرة والجديدة، القرارة، والفخاري. وفي الميدان، دفع الاحتلال بتشكيلات نخبوية، شملت الفرقة 98 (المظليين والكوماندوز)، ولواء جولاني، ووحدات خاصة مثل دوفدفان وعوكيتس، إلى جانب آليات ثقيلة من دبابات، وناقلات جند مدرعة، وجرافات D9 وقد تم تنفيذ التوغل بشكل تدريجي من المحاور الحدودية في كيسوفيم والقرارة، باتجاه عمق خانيونس، مع تقسيم ميداني بين شرق المحافظة وغربها عبر محوري موراج ونتساريم.
وقد وفر سلاح الجو الإسرائيلي غطاءً ناريًا كثيفًا، خاصة في 19 مايو، حيث استهدفت الغارات المكثفة مناطق الكتيبة، جورة العقاد، السطر الغربي، والمواصي، إلى جانب تدمير مستودع المحاليل الطبية في مجمع ناصر الطبي. كما استخدم الاحتلال تقنيات حديثة في الهجوم، من بينها “الروبوتات المفخخة” التي تم توجيهها لنسف مبانٍ في خزاعة والقرارة وعبسان.
وقد تزامن التصعيد البري مع سلسلة من الغارات الكبرى على عدة محاور في الجنوب الشرقي من المدينة، استهدفت ما زعم الاحتلال أنه نفق استراتيجي لقيادة المقاومة. وجاءت هذه الضربة ضمن عملية اغتيال نوعية، أعلنت عنها القيادة العسكرية الإسرائيلية، واستهدفت كلاً من محمد السنوار قائد ركن العمليات في كتائب القسام، ومحمد شبانة قائد لواء رفح، إضافة إلى مهدي كوارع قائد كتيبة جنوب خانيونس، وفق تصريحات المتحدث باسم الجيش ووزير الحرب.
في السياق نفسه، أوضح جيش الاحتلال أن النموذج العملياتي الذي استخدم في رفح سيتم “تكراره في مناطق أخرى”، في إشارة واضحة إلى ما يجري في خانيونس وهو ما ترافق مع توسيع لخرائط الاخلاء لتشمل كل مناطق المدينة.
وكان رهان الاحتلال من وراء هذا الهجوم المباغت استغلال ما قُدّر أنه فراغ قيادي سينجم عن اغتيال هذا “المثلث القيادي” الذي يُعد، وفق التصنيفات الإسرائيلية، مركز الثقل الدفاعي لكتائب القسام في جنوب القطاع. كما سعى الاحتلال، عبر توسيع نطاق الإخلاء والدعاية الضخمة للعملية، إلى بث الانطباع بأن انهيارًا متتاليًا في بنية المقاومة بات وشيكًا، خاصة بعد شهور طويلة من الإنهاك والاستنزاف الذي لم يتوقف منذ العملية الكبرى التي شنتها قواته على خانيونس في ديسمبر 2023.
وتحظى محافظة خانيونس بأهمية استراتيجية خاصة لدى الاحتلال، استنادًا إلى تقديرات استخباراتية تشير إلى أن لواء خانيونس يملك واحدًا من أكبر أرصدة الأسرى لدى المقاومة في القطاع.
ولذلك، فإن إسقاط المقاومة في هذه المنطقة لا يرتبط فقط باعتبارات السيطرة الميدانية، بل أيضًا بإمكانية تحقيق إنجاز طال انتظاره: تحرير أسرى عبر الضغط العسكري، بعد أن فشلت كل الوسائل الأخرى على مدى شهور الحرب والإبادة.
الدفاع المرن… أعمق من الضربات
في المقابل، ورغم أن خسارة المقاومة لكوادرها القيادية النوعية تُعد ضربة مؤلمة من الناحيتين المعنوية والتنظيمية، بالنظر إلى القيمة الرمزية والخبرات المتراكمة لدى هذه القيادات، خصوصًا عند الحديث عن شخصية بحجم القائد محمد السنوار، الذي اضطلع بأدوار مفصلية داخل كتائب القسام، شملت الإشراف على تطوير لواء خانيونس، وتأسيس وحدة الظل، وقيادة ملف الإمداد اللوجستي النوعي، وصولًا إلى منصبه كقائد لركن العمليات، وهو المنصب الذي يُعدّ أحد الأعمدة الرئيسية لنجاح عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر إلا أن هذه الخسارة لم تُفضِ إلى تراجع عملياتي فعلي على الأرض.
ذلك أن طبيعة العمل المقاوم، كما صمّمه القادة الشهداء بأنفسهم، كانت تضع في الاعتبار سيناريوهات الاغتيال ضمن توقعات المواجهة، وتمت صياغة بنية القيادة الميدانية بما يُحصّن الجسم المقاوم من أي فراغ عملياتي قد ينشأ عن الاستهداف المباشر للقيادات.
وهو ما مكّن المقاومة من التصدي بفاعلية للهجوم الإسرائيلي الأخير، عبر استراتيجية دفاعية قائمة على “الدفاع المرن”، تُراعي متطلبات كل مرحلة، وتوزع المهام والصلاحيات على وحدات قتالية مدرّبة، تواصل عملها في مواقعها وفق خطط مُعدّة مسبقًا دون انتظار أو ارتباك.
لقد أتاحت الهيكلية المتماسكة والكوادر المحترفة داخل المقاومة، سلاسة سدّ الشواغر القيادية، واستمرار التنسيق بين غرف القيادة والسيطرة، والحفاظ على الوتيرة العملياتية بل وتصعيدها، وفقًا لحاجات الميدان وضرورات القرار السياسي المقاوم، ما يجعل الفعل المقاوم ليس مجرد ردّ عسكري عفوي، بل جزء من منظومة مدروسة تتفاعل مع المتغيرات.
ويُعدّ لواء خانيونس نموذجًا بارزًا لهذا الأداء الاحترافي. فرغم خسارته لعدد من قياداته، وعلى رأسهم قائد اللواء الشهيد رافع سلامة وغالبية أعضاء مجلس اللواء الذين كان آخرهم الشهيد القائد مهدي كوارع، لم تظهر أي مؤشرات على التراجع أو الإنكفاء؛ بل تصاعدت وتيرة الضربات النوعية، وارتفعت كلفة الهجوم الإسرائيلي يومًا بعد يوم.
وقد نجحت المقاومة في تنفيذ كمائن هندسية متقنة، إلى جانب هجمات تعرضية مباشرة ضد القوات المتوغلة، ما أوقع خسائر بشرية فادحة في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي.
كان أبرز هذه العمليات كمينًا بتاريخ 6 يونيو، أدى إلى انهيار مبنى على قوة مهاجمة، اعترف الاحتلال بمقتل خمسة جنود فيه وإصابة اثنين آخرين، واستغرقت عملية انتشالهم من تحت الأنقاض ساعات طويلة.
وفي تطور لافت، وثّقت مشاهد مصوّرة مقاومين وهم يفتحون بوابة آلية عسكرية إسرائيلية، ويلاحقون جنودها بأسلحة خفيفة، في مشهد صادم نظرًا لما يفترضه الاحتلال من “تحييد” لتلك المناطق الشرقية التي يعتبرها “محروقة” عسكريًا.
أما الضربة الأشد وقعًا، فكانت العملية المعقدة التي نفّذها مقاوم عبر إلقاء عبوة من نوع “شواظ” إلى داخل قمرة قيادة ناقلة جند إسرائيلية، ما أدى إلى احتراقها بالكامل ومقتل سبعة جنود داخلها. لم يتمكن الاحتلال من إخماد النيران المشتعلة في الآلية سوى بعد ساعات، في حادثة وصفتها أوساط أمنية إسرائيلية بأنها “حدث معقد ومُركب” واستمرار للتطور في أداء المقاومة رغم كل ما تعرضت له من محاولات استنزاف وكسر.
مقاومة لا تنكسر… وكلفة تتصاعد
وقد حفل سجل إعلانات المقاومة خلال الأسابيع الماضية، بين الكمائن الهندسية والعمليات النوعية، بسلسلة من الضربات المتصاعدة التي هدفت إلى رفع تكلفة بقاء الاحتلال على أرض قطاع غزة.
لم تكن هذه العمليات مجرد فعل عسكري محدود النطاق، بل جاءت في سياق ممنهج لإعادة فرض المعادلة الميدانية، وإحياء النقاش داخل الكيان الإسرائيلي حول جدوى العمليات البرية، والثمن الدموي المتزايد الذي يدفعه جيش الاحتلال مقابل بقائه في غزة.
وفيما كانت التقديرات الإسرائيلية تعوّل على تأثير الضربات الجوية والاغتيالات في إضعاف بنية المقاومة أو تفكيك قيادتها، أظهرت الوقائع عكس ذلك تمامًا. إذ أثبتت المقاومة، مرة بعد أخرى، أنها بنت جسمًا قتاليًا مرنًا ومتماسكًا، صُمم ليتعامل مع أسوأ السيناريوهات، ويتجاوز أصعب التحديات، ويواصل القتال حتى في ظل ظروف بالغة القسوة، وبيئة ميدانية تُوصف بأنها “جحيم مطلق”.
لقد نجحت المقاومة في تطوير بنية عملياتية متينة، مزوّدة بعقيدة قتالية صلبة، تتكئ على لامركزية القيادة، ومرونة المبادرة، وتوزيع الأدوار على تشكيلات محترفة ومتكاملة. وهو ما يجعل بنيتها عصية على الانهيار، وقادرة على تحويل كل جولة مواجهة إلى استنزاف مُركّب للعدو، يفوق ما تتخيله الدوائر العسكرية الإسرائيلية من حيث التعقيد والتكلفة.
وهنا، لا يقتصر أثر هذه العمليات على البعد التكتيكي أو الميداني، بل تمتد انعكاساتها إلى المستوى الاستراتيجي؛ إذ تعيد إنتاج الفشل الإسرائيلي المتكرر في فرض “واقع جديد” في قطاع غزة، وتُبقي على خط الاشتباك مفتوحًا، وعلى معادلة الردع متحركة، وتؤكد أن كسر المقاومة ليس ممكنًا بوسائل القتل الجماعي، ولا عبر سياسة الإبادة والتدمير الشامل.
بهذا المعنى، فإن خانيونس اليوم، كما غزة عمومًا، لا تُجسد فقط ساحة صراع دامي، بل ميدان اختبار صارخ لفشل الرهانات الصهيونية، ودليل على أن مشروع “التحييد الكامل” الذي يسعى إليه الاحتلال، قد ارتطم بواقع مقاوم لا يزال قادرًا على الإرباك والمبادرة والرد، حتى في أحلك الظروف.