اخبار فلسطين

عن خبايا الليل في غزة

الليل في غزة مختلف تمامًا عما يعرفه العالم، هدوء الليل يكسره أصوات انفجارات لا تهدأ، تتسابق الصواريخ في النزول للأسفل، وفي تشويه معالم المدينة المشوهة منذ ٤٥٠ يوما.

بقايا البيوت تهتز، الغبار يختلط مع الهواء البارد، تجوب الطائرات المعادية السماء بينما صوتها لا يفارق الأرض وآذان الناس في الأسفل وكأنه جزء من “عقاب جماعي” لمن لم يأت دوره بالموت، الكلاب تخلت عن خصلة الوفاء، تنهش بين جنحي الظلام أجساد الشهداء كما نهشهم صمت العالم، تقف على أجساد أسود واجهت الموت والتشريد والجوع.

في ليل غزة حكايات فقد تكتب بحبر الدم وراء ستائر مظلمة، يكتبها أصحابها بأصوات استغاثة لا تسمع عندما تتشقق بين جدار الصمت، ترفض منح المكان هدوءًا يفرش فيه الموت ثوبه ويوزع أكفانه حتى الأغطية تحولت إلى أكفان والبيوت لمقابر جماعية، بلا ضجيج لحظة الإنقضاض على قلوب تنتظر الصباح، تعاند الموت تحت الركام، تصرخ، تستجدي ضميرًا ميتًا، تتشبث بالأمل والحياة، ليرووا حكاية موت وقعت وراء الصمت.

خلف صمت الليل، يستيقظ الموت في كل مكان في غزة، يلاحقنا، يكسر حرمة البيوت مرة ومرتين، يدمرها ويعيد الكرة، ليمسحها بمن فيها عن الحياة، يسرق النوم من عيون أثقلها السهر رغم شدة النعاس، ترفض جفونهم إسدال ستائرها المثقلة بالأرق بينما يطرق القلق والخوف والرعب مساميره في قلوبنا، تقترب الدبابات تبدأ الرشاشات الآلية بإطلاق رصاص لا عد له، يخترق الجدران، “الرصاص يصفر من فوقنا” هذه الجملة يعرفها من يسكنون في الخيام على أطراف مناطق المواصي أو شاطىء البحر حينما تستريح الدبابات قليلا فتتولى الزوارق دورها في الرعب والقتل، ولا يبخل الاحتلال في إمطار غزة بالرصاص، ولا بأس لديه فالدعم السخي للأسلحة من الغرب لايتوقف ولا ينتهي، من بعيد يذيلون توقيعهم عليها.

من بعيد، في دولة أخرى، يصلك المشهد وأنت يحيط بك الأمان من كل جانب، تحيط بك جدران كاملة، وسرير، وغطاء دافىء وليل هادىء هي من أمنيات أهل غزة الآن، تحتار هل ستمنح نفسك الوقت لمشاهدة مقطع فيديو سرد الحكاية؟، وهل ستمنح عيناك فرصة البكاء أم أنك اعتدت المشهد وألفته واستبدلته بمقطع لمباراة كرة قدم، في أحسن التضامن ستشاهد المقطع وتنام، بينما تستمر هي في البكاء والصراخ أسفل الركام: “طلعوني. أولادي بخير!؟”.

يكسر صوت استغاثتها جدار الصمت، يحمل خيوطا من الأمل ترفض الانقطاع عن حبل الحياة، يتسلل صوتها من بين الحجارة، يتدفق من قلب مثقل مليء بالوجع وجسد محاصر من كل جهة تملؤه أوجاع لا تنتهي، يسحبها المسعفون بعد خمس ساعات من إزالة الحجارة بأيديهم، ارتعشت أجسادهم من البرد، مثل طائر وقع في بركة ماء، وأخرجوا السيدة، نظرت حولها كان صوتها الوحيد بين عشرة جثامين هامدة لا صوت لها، ولسان حالها يقول: “أنزلوني للأسفل، فما عاد للحياة طعم، ولا للصباح نور”.

بينما يحاول هو، إشعال النيران بجانب الخيمة منذ ساعة، وفي كل محاولة ترفض الرياح العاتية منحه فرصة لاشعال النار لغلي كأس من الحليب لطفله الصغير، يحاول منحه الدفء، ترفض الرياح الهدوء قليلا لمنح النيران فرصة للاشتعال، كل شيء متجمد في المواصي، أطراف وأجساد الأطفال، الرمال والهواء، الدفء هنا مستحيل. ينام أطفال غزة في خيام تتحول في الليل لثلاجات، بعدما نزحوا لمنطقة المواصي ذات المناخ الصحراوي الهواء فيها بارد وجاف في الليل، بحيث لا توفر القطع القماشية أي دفء، تتساقط قطرات الندى يوميا لتبلل ملابسهم، يرتجفون وهم في داخل الاغطية، ينخر البرد عظامهم ويجمد أجسادهم، وهم يعيشون وجها آخرا للإبادة والظلم.

بينما تقف الإعانات من أغطية وملابس شتوية متكدسة على الجانب المصري من معبر رفح، منذ خمسة أشهر يسد شريان الحياة عن غزة،ويغلق المعبر ويترك الناس يغرقون في مأساتهم يموتون من البرد والتجمد.

سواد الليل حالك في غزة، فلا بقعة نور تستطيع إيجادها، تغرق المدينة في ظلام دامس منذ عام، انطفأت أنوار الحياة، فلا شيء يكسر عتمة الليل إلا وميض الصواريخ وتطاير الشظايا والرصاص، أو مصابيح طاقة بديلة يستعملها الناس في البيوت والخيام ويمضون كل نهارهم في شحنها بالطاقة.

كغيرها من الأماكن كانت غزة قبل الحرب، ورغم الحصار الذي استمر ١٧ عاما تضيء شوارعها ٨ ساعات يوميا في جدول وصل يومي للكهرباء، يتمنى الناس لو يعود الآن، لتشغيل المدفأة قليلا من الوقت لطرد البرودة، لمنح أجسادهم الباردة الدفء.

يهتز جسدها، استيقظ طفلها الصغير جائعا منتصف الليل، بعدما نام على جوع يستجدي أمه بقطعة خبز، تقلب الخيمة تبحث عن أي بديل مشبع، عن شيء ترمم به جسد طفلها، تقف عاجزة أمام طلب صغير، يواصل الطفل البكاء، ويعلو صوته، يسمعه الجيران، يقف الجميع عاجزين فالمأساة تفتك بالكل، تقسم الجارة نصف رغيف لديها مع جارتها، فينام الطفل وتأخذ دموعه غفوة، بينما تبكي أمه من الداخل، وكم من طفل نام بجوعه، لك الله يا غزة.