منوعات

تفكيك الذّات والبحث عن وطن بديل، بقلم د. دورين نصر

الأديبة: دورين نصر لبنان  مقالات

تقدّم رواية “غادينيا”: موعد في أرض الرّماديّين، للكاتب عبد الحميد القائد نسيجًا سرديًّا يمزج بين الخيال العلميّ والدّراما الوجوديّة، لتستكشف عوالم داخليّة وخارجيّة، متأرجحة بين واقع مؤلم ويوتوبيا غامضة.

من خلال تطبيق عدسة دريدا التّفكيكيّة، يمكننا تفكيك الثّنائيّات الظّاهريّة التي يقوم عليها النّصّ، بينما يتيح لنا النّقد ما بعد الكولونياليّ قراءة أعمق لدلالات الوطن، المنفى، والهويّة المهجنة.

1. تفكيك الثّنائيّات المركزيّة: 

يبني دريدا منهجه على تفكيك التّراتبيّة بين الأضداد (الثّنائيّات) التي يرتكز عليها الفكر الغربيّ، مثل (الواقع/الحلم)، (الذّات/الآخر)، و(الدّاخل/الخارج). ورواية “غادينيا” هي حقل خصب لهذه الثّنائيّات.

2. الأرض / عالم الرّماديّين (الواقع / اليوتوبيا): 

للوهلة الأولى، تقدّم الرّواية ثنائيّة واضحة: الأرض كعالم من “الأحقاد والحروب والانتقام”، وعالم الرّماديّين كـ”عالم آمن وعادل”. لكن القراءة التّفكيكيّة تكشف أنّ هذه الحدود ليست صلبة. عالم الرّماديّين، رغم مثاليّته الظّاهريّة، ليس خاليًا من التّسلّط؛ فهو يمارس الاختطاف، ويفرض التّغيّير الجينيّ، ويمتلك طبقة حاكمة (السّلاطين) ذات امتيازات. كما أنّ شخصيّاته ليست منزّهة عن الغيرة والخطط الخفيّة. بهذا، يتداعى التّقابل الحاد بين العالمين، ليصبح كلّ منهما مرآة مشوهة للآخر، ويصبح “المركز” (اليوتوبيا) مجرد هامش متغيّر.

3. الإنسان / الرمادي (الذات / الآخر): 

شخصيّة “وائل” هي تجسيد لهذه الثّنائيّة المتداعية. هو “خليط بشري رمادي متوازن”، هويّته مهجّنة منذ البداية. رحلته إلى أرض الرّماديّين ليست انتقالًا من الذّات إلى الآخر، بل هي رحلة اكتشاف للآخر الكامن في ذاته. التّفكيك هنا لا يرى الإنسان والرّماديّ ككيانين منفصلين، بل كأطياف متداخلة. حتّى “غادينيا”، التي هي من أصل إنسانيّ، خضعت لتغييرات جعلتها “نصف رماديّة”، ممّا يطمس الحدود بشكل أكبر.

4. الحلم / الواقع: 

تبدأ الرّواية بحلم سرياليّ يمتزج بالواقع، حيث يتلقى وائل دعوة من الرّماديّين في منامه.

هذا التداخل يستمر عبر النص، ممّا يجعل القارئ يتساءل باستمرار عن طبيعة ما يحدث. هل عالم الرّماديّين حقيقيّ أم أنّه إسقاط نفسيّ لهروب “وائل” من واقعه؟ التّفكيك يرفض حسم هذا السّؤال، بل يرى أنّ المعنى يكمن في هذا التّذبذب نفسه، حيث لا يمكن تفضيل الواقع على الحلم، فكلاهما ينتج “أثرًا” من المعنى.

5. الوطن والمنفى: قراءة ما بعد كولونياليّة:

يمكن قراءة “غادينيا” كأطروحة عن المنفى والهوية في عالم ما بعد الاستعمار، حيث “الوطن” لم يعد مكانًا جغرافيًا ثابتًا، بل حالة شعوريّة معقدة.

  • الوطن المأزوم والبحث عن بديل: يهرب “وائل” من وطنه الأرضي الذي خذله، باحثًا عن “مأوى حقيقيّ”. هذا الهروب يعكس اغتراب المثقف أو المواطن في وطنه الأم، وهي ثيمة أساسيّة في أدب ما بعد الاستعمار. أرض الرّماديّين تقدم نفسها كـ”وطن بديل” أو “يوتوبيا” للمنفيّين، مكانًا للعدالة والتّقدّم.
  • الهويّة المهجنة (Hybridity): شخصيّات الرّواية هي نتاج تهجين ثقافيّ وجيني. “وائل” و”غادينيا” وحتّى “صالح” الذي تم اختطافه طفلًا، هم شخصيّات هجينة تعيش بين عالمين. هذا التّهجين ليس مجرد خلط بين عرقَين، بل هو حالة وجوديّة ثالثة تتحدّى التّصنيفات النّقيّة. إنهم ليسوا بشرًا بالكامل ولا رماديّين بالكامل، بل كيانات جديدة تعيش في “الفضاء الثّالث” (Third Space) كما يسمّيه هومي بابا.
  • سلطة المعرفة والتّكنولوجيا: يمتلك الرّماديّون تفوقًا علميًّا وتكنولوجيًّا هائلًا يمكّنهم من التّحكم في الزّمن، تعديل الجينات، وحتى اختراق الأحلام. هذه الهيمنة التّكنولوجية يمكن قراءتها كرمز لسلطة “المركز” (الغرب/المتقدم) على “الهامش” (الشرق/المتخلف). الرّماديّون يختطفون البشر “لتطويرهم” وتحسين نسلهم، وهي لغة تحمل أصداءً من الخطاب الكولونياليّ الذي برّر استعماره بمهمة “تحديث” الشّعوب الأخرى.

في نهاية المطاف، “غادينيا” ليست مجرّد رواية خيال علميّ، بل هي استبطان عميق لمعنى الذّات، الهويّة، والوطن في عالم متشظٍ. باستخدام التّفكيك، نرى كيف أنّ اليقينيّات تنهار، والحدود تتلاشى، ليحلّ محلّها عالم من الاحتمالات الغامضة. ومن منظور ما بعد كولونيالي، تصبح الرّواية استعارة قويّة عن تجربة المنفى، والاغتراب، والبحث المضنيّ عن مكان في العالم يمكن أن نسمّيه “وطنًا”، حتى لو كان هذا الوطن في جوف الأرض، في عالم يسكنه الرّماديّون. إنّها رواية تطرح أسئلة أكثر ممّا تقدّم إجابات، تاركة القارئ في قلب المتاهة التّأويليّة التي بنتها ببراعة.