منوعات

قراءة في عنوان

محمد السكري مصر

إن حيرة الكاتب في إختيار إسم لعمله الأدبي لا تختلف كثيراً عن حيرة الأم وهي تفكر في إختيار إسم جميل لمولودها من بين عشرات الأسماء وهي مهمة شاقة علي عكس ما يعتقد البعض، و قد يؤثر العنوان غير المناسب على العمل الأدبي ويأخذه إلى الهاوية كما قد يحلق به اسم آخر عاليا

( بعض الفرح قد يكفي) عنوان رواية جديدة للكاتبة والروائية السعودية الصديقة ريم عبد الباقي و هو من عناوين الكتب التي تحتاج وقفة قبل البدء في قراءة ما بعد العنوان، وقد جاء توظيف المفردتين “بعض” و”قد” متعمدا وله دلالة قصدتها كاتبتنا المبدعة ، لأن ” بعض” حرف يُقصد به الدلالة على جزء من كل، وكأنها أرادت تبعيض الفرح كيفاً وليس كماً ، وأما “قد” وهو حرف يفيد التوقع ، فقد أرادت به عدم الجزم بأن هذا البعض يكفي لتحقيق حالة الفرحة، و بذلك تكون قد ألقت بنا في مهب ريح الاحتمالات والشك لأنها لا تستطيع أن تمنحنا صك اليقين.

ولكن من منظور مختلف هناك فهم آخر للعنوان وهو أنها أرادت به أن تضئ شمعة في عتمة النفوس، فراحت تبشّر بأن القليل إذا ما باركته القلوب قد يكون كافيا لبعث الأمل و إحياء البهجة وانه لابد لنا من تعظيم مساحة السعادة في حياتنا أو تضئيل حجم الحزن في قلوبنا وأن نعمل دائما علي إسقاط القناع عن الحزن ليظهر وجه الفرح، فالفرح والحزن وجهان لعملة واحدة وهي النفس البشرية

وقد حرصت الكاتبة على استخدام مفردة “الفرح” وليس ” السعادة” لتعبر بها عن عمق الشعور، لأن الفرح هو سعادة مفرطة ، ولأن الفرح حالة نفسية لا يمكن تفسيرها بسهولة بينما يمكن تفسير السعادة.وكأن السعادة فقاعة من سرور أما الفرح فهو قصر من بهجة أرادت أن تدعونا إلى زيارته عبر صفحات روايتها .

ولكن هناك فهم آخر للعنوان يأتي مصحوبا بسؤال: هل الرضا بهذا ال”بعض” المتاح من السعادة يكفي بأن يعيش الإنسان حالة الاكتفاء ، وأن عليه أن يضبط مقياس فرحته علي ما تجود به الحياة بعد أن بخلت عليه بالكثير وأجبرته على الرضا بالقليل مثل فرحة المتضور جوعا عندما يعثر على كسرة خبز جافة ؟

و هل يكفي هذا القدر القليل من الفرح ليغير طعم مرارة الأيام ويرسم ابتسامة مشرقة على وجه السماء بعد أن اغتال الغيم فرحتها ؟

إن ” بعض” و “قد” بلاشك يتطلبان قدرا كبيرا جدا من القناعة التي ضحكوا علينا و أوهمونا أنها كنز لا يفنى ، نفس القناعة جاء ذكرها في الحديث النبوي :”….. وارضَ بما قَسَمَ اللهُ لكَ تكُنْ أغْنَى الناسِ …..” حيث يشير إلى ذات المعنى، فالرضا بالقليل يجعل منه كثير، ولكن من أين يأتي الرضا، وما هو حد الغنى الذي أشعر عنده أنني أصبحت أغنى الناس؟ إنها نصيحة مغرِقة في المثالية وهي نفس ما جاءت به لاحقا التصوّرات الفلسفية لدى الرواقيين والكلاسيكية الحديثة لدى كانط ونيتشه.

ثم وكأني أسمع أحدهم يقول : إن “بعض” و “قد” تزرع فينا الخوف وقت الفرح والتوجس مما هو قادم فنبدأ في التصرف مثل السنجاب الذي يقضي عمره في قطف وتخزين ثمار البندق بكميات أكبر بكثير من حاجته، فيضيع عمره في ذلك دون استفادة منه.

وبين دفتي “بعض” و “قد” تاخذنا الأستاذة ريم لرحلة رائعة مع “غالية” و”عمر” وشخصيات أخرى، سعدت واستمتعت جدا بقراءة هذا العمل الذي يوشك أن يرى النور بعيون مصرية .