قراءة نقديّة في رواية “العودة إلى هليليكي” الجسد ساحة للصّراع والهويّة جرحٌ مفتوح

أحببتُ أن أستهلّ مداخلتي باقتباسَين من الرّواية:
الاقتباس الأوّل: “رحل عمر أبو سَردار كالسَّحاب الذي يتبخّر في الأفق تاركًا أحد عشر يتيمًا يدورون حول أرملة رحلَ زوجُها عنها إلى عالم لا يُتيح لروّاده العودة، تاركًا خلفَه بقايا متناثرة كحبّات رملٍ في صحراء قاحلة”.
الاقتباس الثّاني: “ضياع هويّتهم لاحقَهم كما تَتبعُ الظّلالُ أصحابَها ليصبح جزءًا من حياتهم”.
لعلّ رحيلَ عمر كان الحافزَ الأوّل لإشعال الشّرارة المتّقدة في رواية “العودة إلى هِليليكي” للكاتبة إلهام عبد القادر عبد الرّحمن. فمن هذا الحدث انطلق مسار السّرد في رواية تُعدّ صيحةَ احتجاج على واقع مرير. إنّها رواية عن الحلم الذي يتحوّل إلى كابوس، وعن الهويّة التي تصبح تهمة، وعن الجسد الذي يغدو ساحةً أخيرة للصّراع بين الفرد والسّلطة.
فكيف تتقاطع وتتشابك ضغوطات الفقر والقمع السّياسيّ والقيود المجتمعيّة لتشكّل مصير الشّخصيّات، وتحديدًا مصير المرأة في ظلّ هذه الظّروف القاتمة؟
تبدأ الرّواية باحتفال صاخب في حيّ “هِليليكي” المتواضع بمناسبة نجاح “ئالا” المذهل في الامتحانات العامّة، مُحرزةً المرتبة الثّانية على مستوى القامشلي. هذا النّجاح ليس مجرّد إنجاز فرديّ، بل هو بمثابة ترياق يزيل مرارة الحداد، ويُعيد البهجة إلى حياة عائلة عانت طويلًا من الفقر والحرمان؛ ولكنّ هذا الحدث لم يكن إلّا بمثابة نقطة انطلاق لأحداث متتالية سترسم ملامح المعاناة الإنسانيّة، وصراع الهويّة، والبحث الدّؤوب عن الذّات في وجه التّحدّيات الاجتماعيّة والسّياسيّة. وقد وظّفت الكاتبة في روايتها مجموعة من التّقنيّات السّرديّة التي تخدم رؤيتها بعمق، وإن كان الوصف قد أرهق السّرد في كثير من صفحات الرّواية.
أوّلًا الشّخصيّات بوصفها مرايا متكسّرة للمجتمع
تمثّل “ئالا” المحور الذي تدور حوله الرّواية، وهي شخصيّة مركّبة تتطوّر بشكل مأسويّ. تنطلق من حيّ “هِليليكي” الفقير باعتبارها فتاة يتيمة، لكنّها مسكونة بحلم جامح للتّحرّر عبر التّعليم. نجاحها في الثّانويّة العامّة هو بطاقة خروجها من سجن القهر والتّهميش. رحلتها إلى دمشق هي رحلة البحث عن الذّات وعن أفق غامض؛ فرفضُ تسجيل اسمها لأنّه غير عربيّ ليس مجرّد إجراء إداريّ، بل هو رمز لسلب الهويّة ومَحو الثّقافة الكرديّة. لذلك سرعان ما سيتحوّل الأفق إلى هاوية.
وقد وظّفت الكاتبة في رسمها لمسار شخصيّة “ئالا” تيّار الوعي والمونولوج الدّاخليّ (Internal Monologue)، وكانت هذه التّقنيّة هي السّمة الأبرز، كونُها تغوص في أعماق البطلة “ئالا” وأفكارها ومشاعرها المتدفّقة من دون ترتيب منطقيّ صارم. فالسّرد لا يتقدّم فقط عبر الأحداث الخارجيّة، بل عبر التّأمّلات الدّاخليّة والصّراعات النّفسيّة. أذكر على سبيل المثال، في الصّفحات الأولى، بعد نجاح “ئالا” في الامتحانات، لا تصف الكاتبة الفرح بشكل مباشر، بل تأخذنا في رحلة داخل عقل “ئالا”: “تدفّقت تساؤلاتُها كأمواج البحر الهائجة: لماذا تنهمر هذه الدّموع من عينيك؟ هل هو ماء السّماء يروي الأرض المُجدِبة، أم نهر سحريّ يفتح دروبًا لأولئك الذين هربوا من بطش الطّغاة وظلمهم؟” (ص 14).
هذا ليس مجرّد وصف، بل هو تجسيد حيّ لتيّار وعيها الذي يمزج بين الواقع (الدّموع) والرّمز (ماء السّماء) والتّساؤلات الوجوديّة. بالتّالي، ما عاد القارئ يرى العالم كما هو، بل يراه كما تراه “ئالا” وتشعر به.
واللّافت أنّ التّحوّل من الإيمان بالقدر إلى الإيمان بالإرادة الفرديّة هو جوهر شخصيّتها المتمرّدة، إلّا أنّ هذا التّمرّد يصطدم بجدار السّلطة الغاشمة، الاعتقال والتّعذيب والاغتصاب في أقبية السّجون لا يكسر جسدَها فحسب، بل يحطّم روحَها ووعيَها ليكون الجنونُ ملاذَها الأخير، وعودتُها إلى “هِليليكي” ليست عودة المنتصر، بل عودة الجسد المحطّم والرّوح الضّائعة التي تهيم في الشّوارع، في مشهد ختاميّ دراميّ يمزج بين السّخرية والمأساة.
وفضلًا عن صوت “ئالا”، الشّخصيّة الرّئيسيّة في الرّواية، تبرز شخصيّات أخرى تمثّل بدورها صدًى متعدّد الأصوات للواقع الاجتماعيّ العامّ. فالكاتبة تستخدم فضاء السّكن الجامعيّ كـ “ميكروكوزم” أو عالم مصغّر لسوريّا، حيث تجتمع فتيات من خلفيّات جغرافيّة ودينيّة واجتماعيّة متنوّعة (كرديّة، درزيّة، مسيحيّة، سنّيّة). كلّ واحدة منهنّ تروي فصلًا من فصول القهر:
وفاء الدّرزيّة وقصّة حبّها المستحيل مع شابّ مسيحيّ (التي تنتهي بمأساة الإجهاض السّرّيّ)، تكشف عن عنف التّقاليد الدّينيّة التي تمنع الحبّ.
ريم وقصّتها مع ضابط المخابرات السّاديّ (الذي يستغلّ منصبه لابتزازاها واغتصابها)، تشكّل تجسيدًا صارخًا لتزاوج السّلطة السّياسيّة مع السّلطة الذّكوريّة.
حنين المسيحيّة التي تجهل وجود قوميّة كرديّة في سوريا من الأساس، تُبرز عمق سياسات الطّمس الثّقافيّ التي يمارسها النّظام.
زينب النّاشطة (التي تتحدّث بجرأة عن أنّ “الزّواج القسريّ لا يختلف عن الاغتصاب”، تتعرّض لملاحقة الشّرطة) تمثّل صوت الاحتجاج الذي يتمّ سحقه.
هذا التّعدّد في الأصوات يمنح الرّواية عمقًا وشموليّة، مؤكّدًا أنّ مأساة “ئالا” ليست فرديّة، بل هي جزء من بنية قمعيّة تطال الجميع، وإن بأشكال مختلفة، ما يكسر هيمنة صوت البطلة الواحد، ويقدّم رؤية أكثر تركيبًا وتعقيدًا للواقع.
ونشير إلى أنّ الحوار بين “ئالا” وزميلاتها حول معنى الدّرزيّة (ص 77، 78)، أو النّقاش حول وضع المرأة السّوريّة (ص 152)، لا يخدم فقط تطوير الشّخصيّات، بل يقدّم وجهات نظر مختلفة حول الهويّة والدّين والحرّيّة، ما يحوّل السّرد إلى فضاء حواريّ يعكس التّناقضات الحقيقيّة في المجتمع.
ثانيًا الزّمن والمكان: جغرافيا القمع والحلم
1الزّمن
1أالزّمن التّعاقبيّ (Sequential/ Chronological): قناع الخداع والتّقدّم الوهميّ
يبدو ظاهريًّا أنّ السّرد يتبع مسارًا تعاقبيًّا خطّيًّا: تبدأ الأحداث من احتفال بنجاح “ئالا”، ثمّ ننتقل معها في رحلتها إلى دمشق، ونتابع تجربتها في السّكن الجامعيّ، وصولًا إلى الأزمات التي تواجهها. هذا التّقدّم الخطّيّ هو تقدّم خادع، فهو لا يمثّل تطوّرًا حقيقيًّا بقدر ما يمثّل انتقالًا من سجن مكانيّ (هِليليكي) إلى سجن نفسيّ واجتماعيّ أوسع (دمشق والنّظام القمعيّ).
الكاتبة تستخدم هذا التّعاقب لتكشف عن هشاشة فكرة التّقدّم في ظلّ واقع قاهر. كلّ خطوة تخطوها “ئالا” إلى الأمام في مسارها الزّمنيّ (نجاح، سفر، دراسة) تصطدم بجدار من الماضي أو قيد من الحاضر. الزّمن هنا ليس نهرًا يتدفّق نحو مصبّ واضح، بل هو سيرٌ في حلقة مفرغة، حيث تبدو النّهاية مُعلَنة منذ البداية، ما يُضفي على السّرد طابعًا مأسويًّا حتميًّا.
1بالزّمن الاسترجاعيّ (Retrospective/ Flash back): هيمنة الذّاكرة الجريحة
يكمن الثّقل الحقيقيّ للرّواية في توظيفها المكثّف والمؤلم للزّمن الاسترجاعيّ. السّرد لا يتقدّم إلّا ليتعثّر ويعود إلى الخلف. هذه العودة ليست مجرّد تقنيّة فنّيّة، بل هي آليّة دفاع نفسيّة للشّخصيّات وضرورة سرديّة لكشف الجذور العميقة للأزمة.
استرجاع الهويّة المسلوبة: عودة “ئالا” المستمرّة لذكرى اسمها “ئالا رنكين” ووالِدِها الغائب ليست مجرّد حنين، بل هي محاولة يائسة لترميم ذات منكسرة. الماضي هنا هو الحقيقة الوحيدة التي تمنحها شعورًا بالأصالة في حاضر زائف.
استرجاع الصّدمة الجماعيّة: الرّواية تستدعي باستمرار ذاكرة القمع والفقر والتّهميش التي عاشتها العائلة والمجتمع الكرديّ. هذا الاسترجاع يحوّل التّاريخ من مجرّد خلفيّة إلى جرح نازف في الحاضر. الزّمن هنا ليس ماضيًا وانقضىِ، بل هو شبح يطارد الشّخصيّات ويشكّل ردود أفعالها وقراراتها.
إنّ السّرد الاسترجاعيّ في الرّواية هو سرد محموم ومضطرب، لا يأتي في فصول منفصلة، بل يتسلّل عبر الأفكار، والحوارات، والومضات الخاطفة. هذا التّداخل يجعل القارئ يعيش حالة من التّوتّر الزّمنيّ، تمامًا مثل الشّخصيّات التي تعجز عن الفصل بين ما كانت عليه وما هي عليه الآن.
في “العودة إلى هليليكي”، الزّمن ليس مجرّد إطار، بل هو الجلّاد الحقيقيّ. إنّه كيان متآكل يفرض مَنطقَه على الجغرافيا والأرواح على حدّ سواء. الكاتبة لا تؤرّخ للأحداث، بل تُشرّح الزّمن نفسَهُ، كاشفة عن مرضه المزمن الذي يتجلّى في الجمود والتّكرار. السّرد هنا هو صراع عبثيّ ضدّ ساعة معطوبة، حيث كلّ حركة إلى الأمام هي مجرّد خطوة أعمق في رمال الماضي المتحرّكة. إنّها رواية عن الزّمن المسجون، وعن أرواح تحاول التّنفّس في فراغ لا يسمح إلّا بصدى الألم.
باختصار، بنية الزّمن في الرّواية هي بنية جدليّة (ديالكتيكيّة)، حيث يدفع الزّمن التّعاقبيّ الأحداث إلى الأمام ظاهريًّا، بينما يسحبها الزّمن الاسترجاعيّ بقوّة إلى الخلف، وفي نقطة التّصادم بين هذين القطبين، تتفجّر المأساة وتتكشّف حقيقة الصّراع الوجوديّ للشّخصيّات.
2المكان
في السّرد الحديث، المكان ليس مجرّد خلفيّة للأحداث، بل هو انعكاس للحالة النّفسيّة للشّخصيّات. فنلاحظ أنّ الكاتبة تجعل الأماكن تشعر وتتفاعل مع البطلة.
- حيّ هِليليكي: يتمّ باعتباره كائنًا حيًّا يتنفّس ويعاني: “حيّ متواضع يُعرف باسم هليليكي. تتنفّس شوارعه التّرابيّة غبار الزّمن من تحت وهج الغسق. بيوت بأسطح مكشوفة، تفوح منها رائحة الماضي، تراصت كجنود صامتين” (ص 7).
- قمّة جبل قاسيون: الصّعود إلى الجبل ليس مجرّد نزعة، بل هو رحلة رمزيّة للارتقاء فوق الواقع المؤلم. من القمّة ترى “ئالا” دمشق كفسيفساء متألّقة، تخفي وراءها مأساة الهويّة (ص 58). فالجبل هنا هو مساحة للتّأمّل والكشف.
- القامشلي/ هِليليكي: هو مكان الجذور، رمز الفقر والتّهميش والهويّة الكرديّة المقموعة. إنّه المكان الذي يبدأ منه الحلم بالهروب، وهو نفسه الذي تنتهي إليه المأساة. “العودة” في العنوان إلى هِليليكي ليست عودة شافية، بل هي انغلاق دائرة الألم في نقطة البداية.
- دمشق: تمثّل دمشق في البداية أرض الأحلام القديمة، فضاء الحرّيّة والانعتاق. إلّا أنّها سرعان ما تكشف عن وجهها الحقيقيّ كمركز للسّلطة القمعيّة.
- السّكن الجامعيّ وكلّيّة الحقوق: السّكن الجامعيّ، وخصوصًا الغرفة المشتركة، هو فضاء “هيتروتوبي” (Heterotopia). عند دخول الغرفة للمرّة الأولى، لا نجدها مجرّد جدران وأثاث، بل هي “مشهد من الخراب عكس… قسوة الزّمن حاملًا لآثار وتراكمات جراح الماضي” (ص 69). إضافة إلى ذلك، إنّ هذا السّكن الجامعيّ مكان يجمع المتناقضات: مساحة للألفة والصّداقات العابرة للحدود الطّائفيّة، ولكنّه أيضًا مكان هشّ يمكن للسّلطة اقتحامَه في أيّ لحظة. أمّا مباني كلّيّة الحقوق المتهالكة، فهي رمز ساخر لعدالة منهارة.
- السّجن: هو المكان الأكثر كثافة في الرّواية. إنّه قاع الجحيم الأرضيّ. تصفه الكاتبة بتفاصيل حسّيّة مرعبة: “رائحة الحظائر ورائحة عرق ودماء”، وأدوات التّعذيب. إنّه الفضاء الذي يتمّ فيه تفكيك الإنسان وسلخه عن آدميّته، حيث يصبح الجسد مجرّد مادّة للعنف المطلق.
- الجسد مساحة للصّراع: إنّ السّمة الأبرز في “العودة إلى هليليكي” هي مركزيّة الجسد، وتحديدًا الجسد الأنثويّ. وبالتّالي، ليست جميع الأمكنة مادّيّة، بل نجد أنّ الجسد ليس مجرّد وعاء للرّوح، بل هو ساحة تدور عليها كلّ الصّراعات، التي تبلغ ذروتها في تجربة السّجن، حيث يتحوّل جسد “ئالا” إلى مسرح لإرهاب الدّولة. التّعذيب الجسديّ الممنهج والاغتصاب هما أداتا السّلطة لإلغاء إرادتها وتحطيم إنسانيّتها. إنّها رسالة الرّواية الأعمق: في ظلّ الأنظمة الشّموليّة، يصبح التّحكّم في أجساد الأفراد، وخصوصًا النّساء، هو البرهان الأقسى على الهيمنة.
ثالثًاالتّبئير: عدسة متأرجحة بين الكلّيّ والذّاتيّ
لا تعتمد رواية “العودة إلى هليليكي” على نمط تبئير واحد ثابت، بل تستخدم الكاتبة تبئيرًا متغيّرًا (Variable Focalization) تتأرجح فيه عدسة السّرد بين الرّؤية الكلّيّة والرّؤية الذّاتيّة المحدودة، ما يخلق نصًّا غنيًّا بالتّوتّر والمعرفة، ويعكس حالة التّجاذب بين المصير الفرديّ والسّياق الجماعيّ.
يمكن تحليل التّبئير في الرّواية عبر ثلاثة مستويات:
1 السّارد العليم
في أجزاء كثيرة من الرّواية، خصوصًا تلك التي تقدّم الخلفيّة التّاريخيّة والاجتماعيّة، يتّخذ السّارد موقع السّارد العليم. هنا، يعرف السّارد أكثر ممّا تعرفه أيّ شخصيّة بمفردها. هو لا يروي الأحداث من منظور “ئالا” أو والدتها فقط، بل يقدّم تحليلًا شاملًا للوضع:
وصف حيّ هِليليكي: عندما يصف السّارد الحيّ بأنّه يتنفّس غبار الزّمن” ويحلّل حالة الجمود والتّآكل، فهو يقدّم رؤية بانوراميّة تتجاوز إدراك أيّ شخصيّة منفردة.
شرح التّقاليد والأعراف: في حديثه عن قيود المجتمع، والزّواج كصفقة اجتماعيّة، وقضيّة الشّرف، يقدّم السّارد تفسيرات سوسيولوجيّة ومعرفيّة. هو لا يقول: “شعرت أمّ سردار بالظّلم”، بل يشرح لماذا هذا الظّلم قائم في ثقافة القرية.
كشف المصائر الجماعيّة: عندما يتحدّث عن معاناة الأكراد، أو ضياع الهويّة، أو سياسات النّظام القمعيّة، فإنّ السّارد هنا يتحدّث بصوت المؤرّخ أو المحلّل الاجتماعيّ، مقدّمًا للقارئ سياقًا كلّيًّا لا يمكن لشخصيّة “ئالا” الشّابّة أن تحيط به كاملًا.
السّارد العليم ضروريّ لمَنح الرّواية عمقها التّحليليّ والنّقديّ. من دونه، كانت ستتحوّل معاناة الشّخصيّات إلى مجرّد مأساة فرديّة. لكن بوجوده، تصبح كلّ أزمة شخصيّة انعكاسًا لأزمة جماعيّة أوسع، ما يمنح النّصّ قوّته السّياسيّة والاجتماعيّة.
2 التّبئير الدّاخليّ (Internal Focalization)
على الرّغم من وجود السّارد العليم، فإنّ القوّة العاطفيّة الحقيقيّة للرّواية تنبع من لحظات التّحوّل إلى التّبئير الدّاخليّ، حيث تتقلّص زاوية الرّؤية لتتطابق مع وعي شخصيّة محدّدة، وعلى رأسها “ئالا”.
منظور “ئالا”: نحن نرى دمشق لأوّل مرّة من خلال عينيها المندهشتين، ونشعر بقلقها وهي تنتظر نتائج الامتحانات، ونتخبّط معها في صراعها الدّاخليّ بين أحلامها وقيود عائلتها. في هذه اللّحظات، معرفتنا محدودة بمعرفتها، ومشاعرنا هي انعكاس لمشاعرها. السّارد لا يقول: “كانت دمشق مدينة متناقضة”، بل يجعلنا نعيش هذا التّناقض من خلال تجربة “ئالا” الحسّيّة والنّفسيّة.
من منظور شخصيّات أخرى: تستخدم الكاتبة التّبئير الدّاخليّ أيضًا مع شخصيّات أخرى بشكل مؤقّت. فنحن نرى العالم للحظات من منظور أمّ سردار المثقلة بالزّمن، أو من منظور وفاء التي تعيش مأساة حبّها المستحيل. هذا التّنقّل في وجهات النّظر (التّبئير الدّاخليّ المتغيّر) يخلق شبكة معقّدة من التّجارب الذّاتيّة، ويؤكّد أنّ المعاناة ليست حكرًا على البطلة.
بالتّالي، يمنح التّبئير الدّاخليّ الرّواية زخمها الإنسانيّ والعاطفيّ. يجعل القارئ شريكًا في التّجربة، لا مجرّد مراقب خارجيّ. فمن خلال الغوص في وعي “ئالا”، تتحوّل القضايا الكبرى (الهويّة، الحرّيّة، القمع) من مفاهيم مجرّدة إلى تجارب حيّة ومؤلمة.
3 التّبئير الخارجيّ (External Focalization)
تعتمده الكاتبة، حيث يصف السّارد الشّخصيّات من الخارج، من دون النّفاذ إلى وعيها، ما يجعلها تبدو غامضة أو كلغز. هذه التّقنيّة تُستخدم بذكاء لتجسيد شعور “ئالا” بالاغتراب عن محيطها، مثال: “في المشهد الذي يواجه فيه الأبناء رفض والدتهم لفكرة الانتقال من المنزل، نرى الشّخصيّات من خلال حواراتها وأفعالها الخارجيّة، لكنّ دواخلَها تظلّ مغلقة: “نظرَت إليها باستغراب، غير قادرة على فهم قرارها” (ص 148). هنا، القارئ، مثل “ئالا”، يواجه الأمّ كشخصيّة غامضة، ما يعمّق الإحساس بانقطاع التّواصل بين الأجيال. مثال آخر: شخصيّة الأخ الأكبر “سردار” غالبًا ما تُقَدَّم من خلال تبئير خارجيّ. نرى أفعاله ونسمع كلماته التي تعبّر عن السّلطة الذّكوريّة، لكنّنا نادرًا ما ندخل إلى وعيه لنفهم صراعاته الدّاخليّة (إلّا في لمحات سريعة). هذا ما يجعله في نظر القارئ، كما في نظر “ئالا”، رمزًا للسّلطة التّقليديّة أكثر منه شخصيّة مركّبة، وهو اختيار فنّيّ يخدم رؤية الرّواية النّقديّة.
إنّ لعبة التّبئير في “العودة إلى هِليليكي” تتأرجح بين الذّاتيّ والموضوعيّ، ما يمنح الرّواية قدرتها على إدانة القهر من دون الوقوع في فخّ الشّعاراتيّة، وعلى تصوير الألم الإنسانيّ من دون الانغماس في الميلودراما. والسّارد أشبه بمخرج سينمائيّ بارع، يعرف متى يقترب من وجه بطلته ليرصد رجفة الخوف في عينيها، ومتى يبتعد ليلتقط لقطة بانوراميّة للمقبرة الجماعيّة التي تسمّى الوطن.
الخاتمة
تتجاوز رواية “العودة إلى هِليليكي” حدود كونها مجرّد سرديّة للمقاومة أو وثيقة اجتماعيّة لواقع مُعاش، لتطرح نفسها نصًّا إشكاليًّا يخوض في أنطولوجيا الزّمن المأزوم. لم تعد الرّواية تسأل “ماذا حدث؟”، بل أصبحت تحقّق في “كيف يستحيل الوجود داخل زمن مُغتصَب؟”. من خلال التّلاعب المنهجيّ ببنية الزّمن السّرديّ، وتأرجح التّبيئر بين عدسة بانوراميّة كاشفة ومنظور ذاتيّ غارق في ألمه، تسعى إلهام عبد القادر عبد الرّحمن إلى تفكيك الزّمن وتحويله من إطار كرونولوجيّ إلى شخصيّة طاغية ومحوريّة وكأنّه الخصم الحقيقيّ في النّصّ.
إنّ النّتيجة الأعمق التي تخلص ِإليها هذه القراءة هي أنّ الخلل في الرّواية الكامن في الاسترجاعات المحمومة، والتّقدّم المتعثّر، والصّمت المفاجئ ليس ضعفًا بنيويًّا، بل هو محاكاة جماليّة دقيقة لخلل الوجود نفسه. فالزّمن في عالم “هِليليكي” ليس محايدًا، إنّه أداة قمع، وذاكرة جريحة، وآليّة لمحو الهويّة. وعليه، فإنّ السّرد لا يستطيع أن يكون سلسًا أو خطّيًّا لأنّه ينبثق من واقع مشظّى. لذلك، فإنّ “العودة” في العنوان لا تشير فقط إلى عودة مكانيّة إلى “هِليليكي”، بل ترمز إلى العودة القسريّة والمؤلمة إلى نقطة الصّفر الزّمنيّة، إلى تلك اللّحظة التي تجمّد فيها الأمل وتكرّست فيها الهزيمة. الرّواية، في جوهرها، هي استكشاف عميق لما يعيشه المهمّشون، حيث يصبح زمن الماضي سجنًا، والحاضر جحيمًا، والمستقبل مجرّد احتفال مؤجّل إلى أجل غير مسمّى. بهذا المعنى، تقدّم “العودة إلى هِليليكي” إسهامًا نقديًّا بالغ الأهمّيّة، ليس فقط في فضح آليّات القمع السّياسيّ، بل في الكشف عن كيفيّة تغلغل هذا القمع في البنية العميقة للزّمن، ليصبح السّرد نفسه شهادة على استحالة الخلاص.
“العودة إلى هِليليكي” رواية جريئة وقاسية، تكتب عن المسكوت عنه في المجتمع. إنّها شهادة أدبيّة عن جيل حلم بالتّغيير، فسحقته آلة القمع.
