منوعات

نسيج التّبئير في النّص السّرديّ (الجزء الأوّل)

1 بلاغةُ الرّؤيةِ السَّرديَّةِ

تقومُ الصّورةُ السّرديَّةُ على جماليّاتِ التّعابيرِ الفنيَّةِ والجمَاليَّةِ، وتعبّرُ بذلك عن قضايا إنسانيّة متنوّعة من خلال تشكيلات تصويريّة وصفيّة، وتقدّم رؤى سرديّة إنسانيّة ذات وظائف فنيّة سياقيّة، وتوضّح اللّغة المستعملة السّياقات الدّاخليّة والخارجيّة لتلك الرّؤى السّرديّة، وبلاغتها وفق ما تؤدّيه من آفاق الانتظار، وما ينتج عن صورها من فنّيات يوظّفها الرّوائيّ، ويعتمدها كإجراءات لتحقيق غايات محدّدة. وتصبحُ الصّور السردية، نواة الإجراءات اللّغويّة، ووسيلة فنيّة إبداعيّة، وهو ما من شأنه أن يُسهم في بناء بلاغة الرّؤية السّرديّة وتأسيسها على وَفق ثلاثة عناصر متتابعة ومتلاحقة ومتكاملة في انسجام، وتتمثّل في المكوّنات، والسّمات، والصّور النّوعيّة، وعلى هذا الأساس تتحقّق المقاربات الإبداعيّة للنّصوص في ضوء بلاغة الرّؤية السّرديّة.

وتبعًا لذلك، فإنَّ الصّورة هي بمثابة أداة ووسيلة نقديّة وبلاغيّة وتواصليّة. وتجتاز الصورة السّرديّة مسالك الرّؤى الحسيّة إلى الرّؤى البلاغيّة التّخييليّة، وما تؤدّيه من دلالات فنيّة وجماليّة وتداوليّة، ويتمُّ استنباط تلك الدّلالات انطلاقًا من فهم المستوى الذّهنيّ للسّياق النّصيّ، وتفاعل القارئ من خلال العمليّات التّأويليّة النّاتجة عن فعل القراءة، وماهيّات التّصوير البلاغيّ واللّغويّ للنّص السّرديّ، وبذلك يتمّ استنطاق مختلف الرّؤى السّرديّة، استنادًا إلى ديناميّة النّص الرّوائيّ، وتوتّر الأحداث السّرديّة بحسب ما تمليه تحركات الشّخصيّات، وتشظّي الصّراعات فيما بينها.

ويتّسعُ الحديثُ عن بلاغة الرّؤية السّرديّة لتشعّب الانشغالات المحيطة بها، خاصّة حين يتم ربطه البلاغة السّرديّة بالرّواية؛ لأنّ البلاغة تجاوزت التّقنيّات والآليّات المعتادة، إلى استحداثات أخرى؛ من شأنها تحقيق نضج فكريّ وفنيّ للرّواية، وهذا ما لمسناه في العديد من الرّوايات العربيّة عامّة والجزائريّة خاصّة، التّي استفادت من تنظيرات سرديّة متنوّعة؛ لتحقيق رؤية بلاغيّة مستمدّة من خصوصيّاتها، بوصفها نصًّا مفتوحًا، متنوّعَ الأبنية والدّلالات لضمِّ الأساليب المكثّفة، واستجلاء العديد من الرّؤى السّرديّة في سياقها الإنساني، وفهم مختلف الإسقاطات الإيديولوجيّة والفكريّة. وقد يتحقّق ذلك من خلال فهم عناصر النّص الرّوائيّ السّرديّ ومكوّناته، وعلاقات المكوّنات الدّاخليّة بعضها ببعض، واستخلاص وظائفها. ولعلّ هذا يقودنا إلى الإفادة من اللّسانيّات في مجالات الاهتمام باللّغة، وعلاقتها بالدّراسات الأدبيّة والإنسانيّة عامّة.

لقد ضبطت اللّسانيّات وحدات التّحليل اللّغويّ من الجملة إلى النّص، والبدء بالجملة بوصفها أكبر وحدة قابلة للوصف النّحويّ، وذلك ما ينتجُ عنه حتمًا أنّ هذه الوحدة الكبرى تتضمّن وحدات صغرى، تنطلقُ منها العمليّة الوصفيّة اللّسانيّة، وهي الكلمات التّي تتشكّل من وحدات أصغر تسمّى بالمورفيمات. ونشيرُ هنا، إلى جهود هاريس توسيع حدود البحوث اللّسانيّة من خلال التّعامل معها بتجاوزه الجملة إلى الخطاب حسب منهجه التّوزيعيّ، وأشارَ إلى أنَّ أدوات تحليل الخطاب هي نفسها المستعملة في تحليل الجمل، وفضلا عن أنه يركّز على ما يقعُ ضمن حدود المجالات اللّسانيّة دون غيرها ممّا له علاقة بالمجتمع والثّقافة، ويعرّفُ هاريس الخطاب بأنّه: (ملفوظٌ طويل، أو هو متتالية من الجمل تكون مجموعة منغلقة يمكن من خلالها معاينة بنية سلسلة من العناصر، بواسطة المنهجيّة التّوزيعيّة وبشكل يجعلنا نظلّ في مجال لسانيّ محض) ويستخلص من هذا النّص، أنّ التّصوّر التّوزيعيّ لهاريس على الخطاب تصبح فيه جميع العناصر متتاليةً، وباختلاف مواضعها في النّص وترتيبها، بخاصة حين تعبّر عن اتّساق مكوّنات النّص، وبناه اللّغويّة، ويكشفُ لنا انتظام هذه الوحدات المتتالية من الجمل ما يسمّى بالتّوازي (équivalence)، وتتشاكل تلك العناصر المتوازية وفق محورين: أفقيّ، وعموديّ. ولعلّ طبقات التّوازي داخل كلّ جملة تمثّل المحور الأفقيّ للنّص، في حين توالي الجمل المرتّبة في النّص بالنظر إلى أنها تمثّل المحور العموديّ.

ويمكنُ التّمثيل للوحدات المتوالية من الجمل وفق المحورين السّابقين: الأفقيّ، والعموديّ، بما وردَ في عدّة روايات عربيّة وجزائريّة؛ ممّا يجعلُ الكاتب يلجأ إلى تلك المتواليّات لتقديم رؤى مختلفة، وتحديد توجُّهات تلك الرّؤى الأمر الذي من شأنه أن يدلُّ على انفتاح الكتابة السّرديّة، كما يشيرُ إلى قدرة المبدع على السّرد الكثيف، الذّي يرمي من خلاله إلى العناية بكيفيّات ترتيب المادّة السّرديّة، وطرائقها، وقد فصَّل ذلك بعض الدّارسين تحت عنوان (بلاغة السّمات السّرديّة)، وأشار تودوروف Todorov إلى الكثافة (L’opacité) وأصَّلَ لها في مؤلَّفه (الشّعريّة)، بوصفها تقنيّة يكثّفُ من خلالها الرّوائيّ تقنيّات السّرد ووجهات النّظر المتعدّدة. وتشكّل بذلك السّمات السّرديّة المكثّفة نسيجًا بلاغيّا للنّص، وتستندُ إلى أسس جماليّة في وعي الملتقّي لبناء صور تثير ذهنه ومخيّلته، وتحرّك وجدانه، وتوظيف وحدات السّرد الكبرى بهذه التّقنيّة، والقواعد، نجدها بشكل ملحوظ في رواية (ترمي بِشَرَر) للكتاب السّعوديّ عبده خال، حيثُ يقومُ نسيجُ روايته على أنساق سرديّة وظيفيّة في شكل مشاهد، وفصول، تمثّل مختلف الرّؤى التّي يأمل تبليغها للقارئ.

ولعلّ الطّبقات الخطابيّة لنصوصه السّرديّة قامت على بنى مركّبة، ودلالات مكثّفة بانسجام، ويحيلنا ذلك إلى انفتاح النّص على ذاته، وتجاوز النّمط التّقليديّ وكسره للنّمطيّة المعتادة في النّصوص الكلاسيكيّة، واعتماده على متغيّرات متلاحقة ومتسارعة، وأنساق كثيرة مضمرة. هذا إضافة إلى توظيف التّكرار نتيجة تحوّلات اجتماعيّة أو نفسيّة في النّص، ممّا ينتجُ عنه تعدُّد الرّؤى، وتطرّق إلى التّكرار جيرار جينيت Gérard Genette بمسمّى التّواتر التّكراريّ، وهو تكرار لأغراض بلاغيّة ومقاصد جماليّة وفنيّة لمقصديّات سرديّة في النّص. وهذا ما يجعل المتلقّي يحلّل المستويات السّرديّة وأحداثها بأكثر من رؤية، ووظّف (عبده خال) ملفوظ ضمير السّارد المتكلّم، والشّخصيّة الرّئيسة (طارق فاضل) الذي يمثّل الانحلال، والبحث عن النّشوة بأيّة طريقة، ويقع في الدّناءة والقذارة والانحطاط بقوله:

(سعيتُ في كلّ الدّروب القذرة وتقلّدتُ سنَامها. سمة القذارة هذه هي التّي أدخلتني القصر. عندها لم يعد من مناصّ سوى البقاء مغمورًا في دناستي لأتعلّم حكمةً أخرى:

“كلّ كائن يتخفّى بقذارته، ويخرج منها مشيرًا لقذارة الآخرين”) وهذا النًّص يعبّر عن واقع دنيء، لا يعترف بالقيم، ولا بالمبادئ، في إشارة إلى أن البقاء فيه للأقوى والمتسلّط والمتجبّر المتكبّر، ويعبّر عن مجتمع متصدّع وعلاقات دسيسة ودنيئة وخبيثة، والنّفوذ والسّلطة الجائرة في غياب العدل والأمن والأمان، والقصر الذّي يبدو جنّة للكثيرين ما هو إلاّ ملجأ للمتعة والشّهوات التّي تضرب كرامة الإنسان وعفّته ونزاهته عرض الحائط، لتسلُّط صاحبه واستعباده للبشر وحرمانهم من الحريّة، وأبسط حقوق الحياة.

تقوم رواية (ترمي بشرر) على رؤى بلاغيّة، تتحدّد من خلال طبيعة الأنساق السّرديّة وتشكيلاتها، ولعلّ التّوازي أحد أهمّ الأنساق التّقريبيّة للمقابلة بين محتويين سرديّين، ويهدف توظيف التّوازي بمستوياته، ومجالاته، وأشكاله إلى البرهنة على التّشابه بين المحتويات السّرديّة، أو اختلافها تركيبيًّا أو إيقاعيًّا، والحديثُ عن موضوع التّوازي جعل جاكبسون Roman Jackobson يوسّع ملامح قدراته من خلال تحكّمه في المكوّنات اللّغويّة للنّص، الذّي بدوره يشتمل على الأنظمة اللّفظيّة والدّلاليّة، لتناسب الأنساق وفق مستويات متنوّعة، تُحيلنا إليها عمليّة تنظيم البِنَى وترتيبها من حيث أصواتُها وأشكالُها ومقولاتها النّحويّة والمترادفات المعجميّة التّي تتضمّنها، ومنها إلى التّشكيلات التّطريزيّة فوق المقطعيّة، التّي يحقّقها التّوازي في نسق منسجم البنى. وإنّ استظهار الرّؤى البلاغيّة في رواية (كتاب الأمير مسالك أبواب الحديد) للرّوائيّ الجزائريّ واسيني الأعرج، يدلّنا على فاعليّة ظاهرة التّوازي البلاغيّة السّرديّة، وتأثيرها في مختلف المقابلات الفنيّة التّي عرضها الكاتب خاصّة في علاقة الصّوتين السّاردين الأساسيّين في الرّواية، والمتمثّلين في صوت الشّيخ الجزائريّ عبد القادر، وصوت القسّ الفرنسيّ ديبوش، وعلاقة التّكرار بالتّوازي، وقانون التّكرار، الذّي يقوم على علاقة المشاكلة التّي تنتج عن التّكرير اللّفظيّ، وعلاقة المناسبة النّاتجة عن التّكرير المعنويّ. وفي تفصيل الحديث عن التّوازي ميّز (تودوروف) بين نمطين في السّرد هما: توازي الحبكة، وتوازي الصّيغ اللّغويّة المتمثّلة في تفاصيل السّرد وأحداثه، وتعدّد السّاردين وغيرها، وممّا يلاحظ في رواية الأمير أنّ الحبكة تأسّست على الشّخصيّات ووجهات نظرها المتنوّعة، خاصّة الانتماء الدّينيّ الإسلاميّ لدى الأمير، والمسيحيّ للقسّ ديبوش، وإطالة السّرد للحديث عن موضوع التّسامح، وتفصيل التّعريف بشخصيّة الأمير بوتيرة غير منتظمة من عدّة جوانب، كما في تعداد صفاته، وكفاحه، وانتصاراته، ومعاملاته، وخصاله، ومكانته، ومنه الوقوف عند فكرة رئيسة تتعلّق برفض الاستعمار والعنف والظّلم والاستبداد. كما يمكن استجلاء الصّور الشّخصيّة الإنسانيّة في ضوء ما تؤدّيه السّياقات النّصيّة، بعيدًا عن الإسقاطات المرجعيّة والإيديولوجيّة، ولعلّ ذلك يرتبطُ بالصّور الإنسانيّة في علاقاتها بالشّخصيّات الرّوائيّة التّي تعرف تحبيكًا جماليًّا وبلاغيًّا؛ ممّا يستدعي حضور القارئ وتفاعله القرائيّ بتوظيف العمليّات التّأويليّة لاستنباط الرّؤى السّرديّة المتنوّعة. ولعلّ ذلك إشارة إلى ذكرناه آنفًا بتجاوز البلاغة الشّعريّة الضّيّقة، وتعويضها ببلاغة سرديّة موسّعة، تقومُ على المكوّنات والخصائص السّرديّة بمختلف الصّور الفنيّة والبلاغيّة، وهناك من يسمّيها بلاغة السّمات، لما ينتج عن دلالات الرّؤى السّرديّة من تحوّلات جماليّة. وقد تمّت الإشارة إلى (أنَّ علاقة البلاغة بالسّمة شبيهة بالعلاقة التي يحتمل أن تقوم بين اللّغة والكلام. فالسّمات، إلى جانب الكون الأدبيّ والمكوّنات والسّمات التّكوينيّة والصّورة تشكّل تجليّات فعليّة للأسلوب الحيويّ الذي نستقري “بلاغته”. بيد أنّ ذلك الشّبه لا يعني التّطابق بين القضيّة اللّسانيّة والتّجلّي الأدبيّ. فالسّمات الأدبيّة على الرّغم من طبيعتها الجماليّة التّطبيقيّة لا تكتفي بتحقيق غايات التّواصل والإخبار والتّداول فحسب، وإنّما تضيف طموحها إلى تصوير النّوازع الدّفينة في النّفس البشريّة التي تمتنع عن التّقييد والضّبط الحصريّ. وبذلك، لا ترقى السّمة إلى رتبة القاعدة أو القانون العلميّ)، ويضيف صاحب النّص تفصيلاً بذكر خطوات منهجيّة، تقومُ عليها بلاغة السّرد الموسّع، وهي جملة من المكوّنات والسّمات، وكذلك بعض الصّور النّوعيّة الجزئيّة والكليّة، التّي يتمّ استخلاصها من النّص ممّا لا يسع المقام لذكرها؛ وإنّما كان الغرض من الإشارة إليها هنا هو التّنبيه لمفهوم البلاغة بالسّمة، وما ينتج عنها من دلالات ورؤى سرديّة.