بكتيريا مُبرمَجة وأدوية حيَّة: الطب في عصر الذكاء الاصطناعي!

في يوم ما، ستستيقظ صباحًا دون الحاجة إلى تناول أي دواء. لن تفتح علبة الكبسولات، ولن تبحث عن الماء، ولن تشعر بذلك القلق المزمن المرتبط بجرعة فائتة أو أعراض جانبية جديدة.
بدلًا من ذلك، سيكون العلاج قد بدأ قبل أن تفتح عينيك. في مكان ما داخل جسدك، تعمل بكتيريا دقيقة «مبرمجة ومتصلة بنظام ذكاء اصطناعي» على مراقبة جسمك من الداخل. تستشعر تغيرات طفيفة لا تشعر بها، تحلل البيانات، وتتخذ قرارًا: الوقت مناسب الآن لإنتاج كمية ضئيلة من الجزيء العلاجي. لا حاجة لطلب إذن، ولا وصفة طبية، ولا تدخل بشري.
تبدو كقصة من الخيال العلمي؟ ربما، لكن الحقيقة أن هذا المستقبل أقرب مما نتصور.
في تقاطع فريد بين علم الأحياء والذكاء الاصطناعي، يعمل العلماء على تطوير نوع جديد من الأدوية: أدوية رقمية، تتم برمجتها لتعيش داخل الجسم، وتنتج الدواء المناسب، في المكان المناسب، في التوقيت الدقيق. إنها ليست مجرد أدوات طبية، بل كيانات بيولوجية ذكية، قادرة على الفهم والاستجابة والتكيف.
في هذا المقال، نغوص معًا في أعماق هذا العالم الثوري، لنكتشف كيف نشأت فكرة الدواء الرقمي، وما الدور الذي يلعبه الذكاء الاصطناعي في تصميمه وتوجيهه داخل الجسد.
من فكرة طموحة إلى أبحاث متقدمة
لم تكن فكرة أن يصنع الجسم دواءه بنفسه جديدة تمامًا، فقد راودت خيال العلماء لعقود، لكن ما كان ينقصها هو التكنولوجيا التي تمنح البكتيريا القدرة على التفكير واتخاذ القرار. ومع تطور علم الهندسة الوراثية وظهور تقنيات البيولوجيا التركيبية، بدأ الباحثون في تخيل سيناريو أكثر جرأة: ماذا لو قمنا ببرمجة بكتيريا نافعة لتصبح مصنعًا صغيرًا يعيش داخل الأمعاء؟ ليس مجرد كائن حي يتطفل أو يتعايش، بل وحدة ذكية تُنتج مركبات دوائية عند الحاجة.
وهنا دخل الذكاء الاصطناعي على الخط، ليرفع هذا الحلم إلى مستوى غير مسبوق. فلم يعد الأمر مقتصرًا على برمجة ثابتة تقوم بها البكتيريا طوال الوقت، بل أصبح بالإمكان تزويدها بخوارزميات تُشبه إلى حد ما نظامًا عصبيًا بدائيًا، تستشعر بيئة الجسد، تحلل البيانات الحيوية، وتقرر: هل حان الوقت لإنتاج الدواء؟ أم أن الجسد بخير ويجب أن ننتظر؟
بهذه الطريقة، تتحول البكتيريا إلى كائنات علاجية دقيقة، تُشبه الأطباء الصامتين الذين لا ينامون، يعيشون داخلنا، ويتخذون القرار الصحيح في اللحظة المناسبة.
دور الذكاء الاصطناعي

لتحويل البكتيريا إلى «كائن علاجي ذكي»، يبدأ العلماء بعملية تُسمى الهندسة الجينية، وهي تعديل الحمض النووي للبكتيريا لإضافة وظائف جديدة لم تكن موجودة فيها طبيعيًا. في هذه الحالة، يتم إدخال جينات صناعية، أي أجزاء من الشيفرة الوراثية، مسؤولة عن تصنيع مركبات معينة، مثل إنزيمات تُعالج مرضًا محددًا. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل تُضاف أيضًا أجزاء تُشبه «مفاتيح التشغيل» تُعرف بالعناصر المنظمة، وهي التي تعمل كمستشعرات داخلية.
هنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي، وتحديدًا نماذج تعلم الآلة، ليساعد العلماء على اختيار الجينات المناسبة وتصميم الترتيبات الجينية الأكثر فاعلية. فالخريطة الجينية للبكتيريا بالغة التعقيد، وهناك مليارات من الاحتمالات عند تعديلها.

لكن الذكاء الاصطناعي يمكنه تحليل قواعد بيانات ضخمة من التجارب السابقة، والتنبؤ بكيفية استجابة البكتيريا للبيئة داخل جسم الإنسان، بل ويمكنه محاكاة كيف ستتفاعل مع أمراض مختلفة أو أنظمة غذائية معينة. كما يساعد في تحسين كفاءة المستشعرات الجينية، وضبط مستوى الإنتاج الدوائي بدقة، بحيث لا يكون أكثر أو أقل من اللازم.
بعبارة أخرى، يتم استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة تصميم، واختبار، وتوقع، تجعل من الممكن برمجة بكتيريا دقيقة جدًا في سلوكها، وتتصرف داخل الجسم كما لو كانت جهازًا ذكيًا يستشعر الخطر ويتدخل في اللحظة المناسبة.
تجارب واقعية تشبه الخيال

رغم أن الفكرة قد تبدو للوهلة الأولى ضربًا من الخيال العلمي، إلا أن مختبرات علمية رائدة حول العالم بدأت فعليًا في تحويلها إلى حقيقة ملموسة. ففي جامعة MIT، ساهم علماء الأحياء والهندسة في تأسيس شركة تُدعى Synlogic، وهي من أوائل الشركات التي نجحت في تطوير بكتيريا نافعة مبرمجة وراثيًا، قادرة على إنتاج مركبات علاجية داخل الجسم.
البكتيريا الذكية لعلاج ارتفاع الأمونيا

في واحدة من أكثر التجارب طموحًا في عالم الطب الحيوي، عملت شركة Synlogic على تطوير نوع من البكتيريا المعدلة وراثيًا يُدعى SYNB1020، بهدف معالجة اضطراب نادر يُعرف باسم اضطراب دورة اليوريا، والذي يؤدي إلى تراكم مادة الأمونيا السامة في الدم بسبب خلل جيني يمنع الجسم من التخلص من النيتروجين الزائد.
اعتمدت الفكرة على استخدام سلالة آمنة من بكتيريا E. coli Nissle 1917، تم تعديلها جينيًا بحيث تكتشف ارتفاع مستويات الأمونيا داخل الأمعاء وتبدأ فورًا في تحويلها إلى حمض أميني غير سام يُدعى أرجينين، يمكن للجسم التخلص منه بشكل طبيعي.

في التجارب الحيوانية، أظهرت هذه البكتيريا نتائج واعدة؛ إذ ساهمت في خفض مستويات الأمونيا وزادت من معدلات البقاء على قيد الحياة في الفئران المصابة بالمرض. وقد أُجريت لاحقًا تجارب سريرية على متطوعين أصحاء، أثبتت أن الجرعة الفموية من البكتيريا آمنة وتُحدث تغيرات فعلية في مؤشرات النيتروجين داخل الجسم، كما أن البكتيريا تُزال تلقائيًا من الجهاز الهضمي بعد أيام من التوقف عن تناولها.
لكن عندما انتقل الباحثون إلى المرحلة التالية، واختبروا العلاج على مرضى يعانون من تليف كبدي حاد مرتبط بارتفاع الأمونيا، لم تحقق النتائج التأثير المرجو، مما أدى إلى وقف المشروع في عام 2019. ومع ذلك، تُعد تجربة SYNB1020 واحدة من أوائل النماذج التي طبقت مفهوم الدواء الحي الموجه ذاتيًا داخل الجسد، وهي تمهد الطريق لتقنيات مستقبلية يمكن أن تغيّر شكل الطب التقليدي جذريًا.
بكتيريا ذكية لعلاج داء الفينيل كيتون (PKU)

وفي تجارب أخرى أكثر تقدمًا، طورت فرق بحثية بكتيريا نافعة مُعدلة وراثيًا للتعامل مع أمراض مزمنة مثل داء الفينيل كيتون، وهو اضطراب وراثي نادر يؤدي إلى تراكم مادة الفينيل ألانين في الجسم، ما يهدد النمو العقلي للمريض إذا تُرك دون علاج. في هذه الحالة، يتم إعطاء المريض كبسولة تحتوي على هذه البكتيريا الذكية، والتي تبدأ في الاستقرار داخل القناة الهضمية. تعمل البكتيريا المبرمجة كأنها وحدات استشعار حيوية دقيقة، تعيش داخل الأمعاء وتراقب باستمرار مستويات المادة الضارة. وما إن تكتشف ارتفاعًا غير طبيعي، حتى تبدأ تلقائيًا في إنتاج إنزيم خاص يقوم بتكسير الفينيل ألانين وتحويله إلى مركبات آمنة يتخلص منها الجسم بسلاسة.
تتم تلك العملية داخل الجسد، بصمت، ودون الحاجة إلى جرعات منتظمة أو أنظمة غذائية صارمة، لأن البكتيريا لا تفرز العلاج إلا عند الحاجة، ووفقًا للظروف البيولوجية الفعلية للمريض. ويكمن الجانب الثوري في أن الذكاء الاصطناعي يُستخدم هنا ليس فقط في تصميم الجينات داخل هذه البكتيريا، بل أيضًا في التنبؤ بسلوكها داخل البيئة المعقدة لجسم الإنسان، ما يجعل العلاج أكثر دقة وتكيفًا مع الحالة الفردية لكل مريض.
الأمر المذهل أن الذكاء الاصطناعي أصبح شريكًا فعليًا في تصميم الجينات وتحديد التسلسلات الوراثية الأنسب لكل حالة، وتوقع كيفية تفاعلها مع البيئة البيولوجية المعقدة داخل الجسم البشري.
التحديات الأخلاقية والعلمية

رغم الآفاق المذهلة التي تفتحها هذه التقنية، فإنها لا تخلو من أسئلة أخلاقية وعلمية عميقة. كيف يمكن الوثوق بكائن حي مبرمج يعيش داخل جسد الإنسان ويتخذ قرارات علاجية ذاتيًا؟ وماذا لو تطور بطريقة غير متوقعة أو تفاعل مع بيئة الجسم بشكل مغاير؟ هناك تحديات كبيرة تتعلق بسلامة الاستخدام على المدى الطويل، خاصة أن البكتيريا المعدلة تحمل شيفرات جينية مخصصة، وقد تؤثر على بكتيريا الأمعاء الطبيعية أو تتبادل الجينات مع بكتيريا أخرى. إضافة إلى ذلك، فإن إدخال الذكاء الاصطناعي إلى منظومة التحكم يعني أننا نعتمد على خوارزميات قد تتعلم من البيانات، ما يفتح الباب أمام سلوكيات غير متوقعة أو غير مفهومة بالكامل.
على سبيل المثال، هل يمكن لنموذج ذكي أن يُخطئ في توقيت إنتاج الدواء؟ أو يُنتج جرعة غير مناسبة؟ تلك أسئلة لا تزال في طور البحث، وتدفعنا إلى إعادة التفكير في مفهوم السيطرة الطبية، وحدود التدخل البشري، ومَن المسؤول قانونيًا إن حدث خطأ؟ يبقى التوازن بين الإبداع والرقابة أمرًا بالغ الحساسية في هذا المجال الجديد.
نظرة إلى المستقبل مع الذكاء الاصطناعي

مع تسارع الأبحاث في مجال البيولوجيا التركيبية والذكاء الاصطناعي، لم تعد فكرة أن يتحول جسد الإنسان إلى نظام علاجي ذاتي خيالًا علميًا. فنحن نقترب من مرحلة لا يكون فيها الدواء شيئًا نبتلعه من الخارج، بل شيئًا يتم إنتاجه داخليًا عند الحاجة، بواسطة كائنات دقيقة مبرمجة بعناية. تخيل معي عزيزي القارئ أن تختفي مواعيد الدواء المنتظمة، ويحل محلها نظام داخلي ذكي يتابع المؤشرات الحيوية، ويطلق العلاج عند أول إشارة خطر، ثم يتوقف بمجرد عودة التوازن.

الاحتمالات هائلة، على سبيل المثال، بكتيريا تُستخدم لتنظيم السكر في الدم لمرضى السكري، أو لرصد مؤشرات الخلايا السرطانية فور بدء تكونها، وإفراز مركبات تُعيق تطورها قبل أن تظهر حتى في التحاليل التقليدية. بل هناك مشاريع تجريبية تسعى إلى ربط هذه البكتيريا بأنظمة ذكية خارجية مثل الهواتف أو الساعات الذكية، لتشكيل شبكة علاجية متكاملة داخل الجسد وخارجه.
لكن هذا المستقبل لا يخلو من أسئلة مصيرية: من يتحكم في هذه الكائنات؟ من يضمن ألا تتحول إلى أسلحة بيولوجية بيد الشركات أو الحكومات؟ ما الحدود بين العلاج والتحكم عن بعد؟ سترافقنا هذه الأسئلة طويلًا، لكنها لا تنتقص من جوهر الحقيقة:
أن الطب كما عرفناه يتغير بسرعة غير مسبوقة، وأن الدواء لم يعد مجرد مادة، بل قد يصبح قريبًا كائنًا حيًا، يعيش داخل أجسادنا، ويعمل في صمت ودقة.
?xml>