تكنولوجيا

روسيا تطلق قمراً صناعياً غامضاً يلاحق أقمار التجسس الأمريكية

في وقت تتراجع فيه قدرة روسيا الفضائية مقارنة بالقوى الكبرى، يبدو أن الرئيس فلاديمير بوتين لا يزال يملك بعض الأوراق ليُلوح بها في وجه خصومه، حتى وإن كانت تلك الأوراق تحوم في المدار الأرضي على شكل أقمار صناعية غامضة وسلوكيات مريبة لا تخفى على أعين المراقبين.

في الأسابيع الأخيرة، تصاعدت وتيرة الأنشطة الفضائية الروسية بشكل غير مسبوق؛ إذ شملت إطلاق صواريخ تحمل حمولات عسكرية سرية، وإفلات أجسام غامضة من مركبات أمّْ في المدار، إضافة إلى مناورات دقيقة بين ثلاثة أقمار تدور على ارتفاع يقارب 400 ميل. كل حدث من هذه الأحداث كفيل بإثارة اهتمام المحللين العسكريين في الغرب، ولكن تراكمها بهذا الشكل يعكس واحدة من أكثر موجات النشاط العسكري الروسي في الفضاء كثافة منذ نهاية الحرب الباردة.

يأتي هذا التصعيد في وقت تعاني فيه روسيا من تراجع حاد في قدراتها الفضائية؛ فمن أصل ثمانية عمليات إطلاق فقط أجرتها روسيا هذا العام، ثلاث منها كانت لأهداف محتملة تتعلق بالأسلحة المضادة للأقمار الصناعية، في حين نفذت الولايات المتحدة 101 إطلاق، والصين 36.

صراع بقايا الإمبراطورية الفضائية

منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، اعتمدت روسيا على التمويل الغربي لتسيير برنامجها الفضائي، لكنها فقدت هذا الدعم بعد غزو أوكرانيا. كما فقدت روسيا إمكانية الوصول إلى المكونات الأوكرانية التي كانت تعتمد عليها في صناعة الصواريخ والأقمار.

في 23 مايو، أطلقت روسيا قمراً صناعياً يُعرف باسم كوزموس 2588 في مدار منخفض متزامن تمامًا مع مدار قمر أمريكي معروف باسم USA 338، وهو على الأرجح أحد أقمار التجسس من طراز KH-11 Keyhole المتطورة، التي تملك قدرة بصرية فائقة وتُستخدم لمراقبة مواقع حساسة حول العالم.

لم تكن هذه الخطوة جديدة، فقد سبق أن أطلقت روسيا منذ عام 2019 أربعة أقمار ضمن برنامج يُعرف باسم Nivelir، وهو اسم يرمز لجهاز مسح بصري. تم إطلاق هذه الأقمار بدقة في المدارات نفسها التي تتبعها أقمار التجسس الأمريكية، دون أن تقترب منها كثيرًا، لكنها حافظت على مسارات متوازية تتيح لها الاقتراب إذا لزم الأمر.

رسائل مقلقة من روسيا

قد يبدو للبعض أن ما تفعله روسيا هو مجرد مراقبة أو استعراض تقني، لكن الحقيقة أعمق من ذلك. فأحد أقمار Nivelir، وهو كوزموس 2542، أطلق في عام 2019 قمراً ثانوياً صغيراً لاحق قمرًا أمريكيًا ثم أطلق تجاهه قذيفة بسرعة كافية لإحداث دمار. واعتُبر هذا الحدث حينها اختبارًا لسلاح فضائي مضاد للأقمار.

والآن، يتكرر السيناريو ذاته. قمر آخر، كوزموس 2558، أطلق في الأسابيع الأخيرة جسماً ثانوياً غامضًا يدور بالقرب من القمر الأمريكي USA 326، ويقترب منه كل بضعة أيام لمسافة لا تتجاوز 100 كيلومتر. وتثير هذه التحركات القلق، إذ تبدو وكأنها إعداد لمفاجأة مستقبلية قد تكون قاتلة.

لماذا تخاطر روسيا بهذا الشكل؟

تثير استراتيجية روسيا الفضائية أسئلة جوهرية لدى العسكريين الأمريكيين: لماذا تضع موسكو أقماراً في مدارات مخصصة لملاحقة هدف واحد فقط، في حين أن إطلاق صواريخ من الأرض يوفر مرونة أكبر وقدرة على استهداف أقمار متعددة؟

وقد علق أحد المسؤولين السابقين في برامج الفضاء العسكرية الأمريكية:

عندما تطلق قمرًا إلى نفس المدار تمامًا مع قمر تجسس أمريكي، فإنك تفعل ذلك عن قصد. وهذا يعني أنك تقيد نفسك بهدف واحد فقط، وهي مخاطرة كبيرة في حال اندلاع نزاع.

قد تكون هذه الأقمار مجرد رسائل مزعجة أو استعراض عضلات، لكنها تبقى مصدر تهديد حقيقي إذا ما تحولت إلى سلاح في لحظة حرجة.

دمى روسية في الفضاء

لا يقتصرالتصعيد الروسي على أقمار Nivelir. فهناك ثلاث أقمار أخرى أُطلقت في فبراير الماضي تحت أسماء كوزموس 2581 و2582 و2583، تقوم بمناورات معقدة فيما بينها، وتشبه في سلوكها عمليات التدريب على الاشتباك الفضائي أو حتى نقل الذخائر. أطلق أحد هذه الأقمار جسمًا ثانويًا في مارس، وبدأ يتفاعل معه بمناورات دقيقة، قبل أن ينضم إليه القمران الآخران ويبدأ الثلاثة في الطيران سوياً.

تمثل هذه المناورات بحسب المراقبين، أحد أكثر العمليات الروسية تعقيدًا في الفضاء منذ عقود، ما يؤكد أن موسكو لا تتحرك عبثًا، بل تختبر قدراتها على التنسيق والتفاعل بين أقمار يمكن أن تكون جزءًا من نظام سلاح متكامل في المستقبل.

لطالما شعرت روسيا بالتهديد من أعين أمريكا الطائرة، منذ حادثة إسقاط طائرة التجسس U-2 عام 1960. واليوم، ومع تحول السماء إلى ساحة حرب افتراضية، يبدو أن هذه العقلية لم تتغير.
فروسيا تنظر إلى أقمار التجسس الأمريكية باعتبارها الخطر الأكبر على أمنها القومي، وتسعى بكل الوسائل لإرسال رسائل حادة، سواء عبر الاقتراب من تلك الأقمار أو التلويح بقوة تكنولوجية خفية يمكنها أن تُحدث فرقًا في أي مواجهة محتملة.

?xml>