تكنولوجيا

مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي: ماذا تعني؟ ولماذا تتسابق عليها الدول؟

في كبرى دول العالم، تقف مبانٍ عملاقة من الفولاذ والزجاج، بلا لافتات لامعة أو ديكورات مثيرة، لكنها تبتلع الكهرباء كما يبتلع المحيط الأنهار، وتطلق حرارة تكفي لتدفئة مدينة بأكملها. خلف جدرانها المعدنية تصطف آلاف الخوادم كتروس في ماكينة لا تتوقف، تعالج مليارات العمليات في كل ثانية، وتحول سيل البيانات القادم من أنحاء العالم إلى معرفة دقيقة، وتنبؤات مستقبلية، وخطط ترسم مسار الحكومات والشركات.

هذه القلاع الرقمية هي مراكز البيانات الضخمة للذكاء الاصطناعي، ساحات التنافس الجديدة التي تخوض فيها الدول سباقاً محموماً كما كانت تتسابق قديماً على الذهب والنفط. ففي هذا العصر، أصبحت المعلومة أثمن من أي مورد آخر، وصار امتلاك هذه المراكز أشبه بامتلاك مفاتيح القوة والنفوذ في القرن الحادي والعشرين.

في هذا المقال، سنكشف ما تعنيه هذه المراكز، ولماذا تتسابق عليها الدول، وما الذي يجعلها الثروة الاستراتيجية الأهم في عصر الذكاء الاصطناعي.

إنشاء مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي

صورة توضيحية لمركز بيانات الذكاء الاصطناعي من الداخل – المصدر: the decoder

يُعد إنشاء مركز بيانات ضخم مخصص للذكاء الاصطناعي بمثابة عملية هندسية دقيقة تتطلب توازناً بين القوة والمرونة والكفاءة. يبدأ البناء عادةً بتصميم موديولي يعتمد على وحدات جاهزة مسبقاً يمكن تركيبها وتوسعتها بسهولة، سواء كانت على شكل حاويات معدة أو مكونات قابلة للتجميع.

يختصر هذا النهج وقت التشييد ويخفض التكاليف، كما يتيح التوسع المستقبلي دون تعطيل العمليات. وفي المناطق التي تعاني من محدودية المساحات أو ارتفاع أسعار الأراضي، قد يتجه التصميم إلى البناء العمودي متعدد الطوابق، وهو ما يستلزم أساسات قوية وتقنيات متقدمة لتحمل الأحمال الهائلة للخوادم وأنظمة الدعم.

تعتمد هذه المراكز على بنية طاقة فائقة الاعتمادية؛ إذ تُوصل بشبكات كهربائية قوية مدعومة بأنظمة احتياطية لضمان التشغيل المتواصل حتى في حالات الطوارئ. كما تُصمم وفق نسب تكرارية عالية لضمان استمرار تدفق الطاقة دون انقطاع، وتلجأ بعض المراكز إلى إنشاء بنى تحتية للطاقة خلف الشبكة، مثل الألواح الشمسية أو البطاريات، لتقليل الاعتماد على الشبكات العامة وتعزيز الاستقرار.

صورة توضيحية لمركز بيانات الذكاء الاصطناعي من الداخل – المصدر: tech xplore

أما التبريد، فهو عنصر حاسم في هذه البنية، إذ تنتج الخوادم المخصصة للذكاء الاصطناعي أحمالاً حرارية ضخمة تتجاوز أحياناً 100 كيلوواط لكل وحدة. لذلك، تُعتمد تقنيات تبريد متقدمة مثل التبريد بالسائل المباشر إلى الرقاقة أو عبر مبردات خلفية للوحدات أو حتى التبريد بالغمر الكامل، وكلها تهدف للحفاظ على الأداء الأمثل وخفض مؤشر كفاءة استخدام الطاقة (PUE) قدر الإمكان.

من ناحية العتاد، تضم هذه المراكز معالجات متخصصة مثل وحدات معالجة الرسوميات (GPU) ووحدات المعالجة المخصصة للذكاء الاصطناعي (TPU وNPU)، المدعومة بشبكات داخلية فائقة السرعة لتأمين زمن وصول منخفض وتبادل بيانات سلس بين آلاف المعالجات. كما توفر أنظمة تخزين متطورة تعتمد على أقراص NVMe وذاكرة عالية النطاق (HBM) لتحقيق الأداء الفائق المطلوب لتدريب وتشغيل النماذج الضخمة.

تجعل هذه التفاصيل من مراكز البيانات الضخمة للذكاء الاصطناعي بمثابة قلاع رقمية، تُشيد على أسس من التخطيط الاستراتيجي، والهندسة المتقدمة، والرؤية الواضحة لاحتياجات المستقبل.

أمثلة لمراكز البيانات الضخمة

فيما يلي عرض لأبرز المشاريع العالمية التي تجسد عمق التنافس في بناء البنية التحتية لمراكز البيانات الخاصة بالذكاء الاصطناعي:

صورة بالأقمار الصناعية لمركز بيانات الذكاء الاصطناعي بالصين – المصدر: baxtel
  • China Telecom Inner Mongolia Information Park (منغوليا الداخلية، الصين): يمتد هذا المركز على مساحة هائلة تبلغ حوالي 10.7 مليون قدم مربعة ويضم نحو 20,000 بطاقة تسريع للذكاء الاصطناعي (AI accelerator cards)، ما يتيح قدرة معالجة فائقة تمكن من تشغيل خدمات ضخمة مثل Alibaba وTencent وBaidu.
صورة توضيحية لمركز البيانات بنيفادا – المصدر: switch
  • Switch Citadel Campus  (رينو، نيفادا، الولايات المتحدة): يُعد أكبر مركز بيانات من نوع colocation في العالم، بمساحة تقارب 7.2-7.75 مليون قدم مربعة، ويعتمد بالكامل على الطاقة المتجددة، كما يدعم طاقة تشغيل تصل إلى حوالي 650–815 ميجاوات.
  • مركز بيانات في شايان (وايومنج، أمريكا): وهو مشروع مشترك بين Tallgrass وCrusoe يتطلب 1.8 GW من الكهرباء، وهو أكثر مما يستهلكه جميع سكان الولاية من المنازل. ويمكن توسيعه ليصل إلى 10 GW، ما يجعله موقعًا محوريًا للطاقة.
صورة لمركز jupiter بألمانيا – المصدر: nvidia newsroom
  • سوبركمبيوتر Jupiter (ألمانيا): يُعد الأسرع أوروبياً إذ يقدم أداءً يبلغ 793 petaFLOPS ويعتمد على بنية تتميز بتكنولوجيا NVIDIA GH200 مع تبريد باستخدام ماء دافئ. يُستخدم في أبحاث العلوم والذكاء الاصطناعي ويعكس توجهاً نحو الهندسة المتقدمة والكفاءة الطاقية.
شركة core weave – المصدر: market watch
  • شركة CoreWeave (الولايات المتحدة وأوروبا)
    تدير 32 مركز بيانات في عام 2025، وتملك منشأة ضخمة في نيوجيرسي بمساحة 280,000 قدم مربع وتكلفة 1.2 مليار دولار، بالإضافة إلى مشروع سوبركمبيوتر لـ NVIDIA في تكساس بحجم 450,000 قدم مربع ويضم أكثر من 3,500 وحدة H100، ويُعد واحداً من أسرع مرافق الذكاء الاصطناعي في العالم.

مشاريع ضخمة من شركات التكنولوجيا الكبرى (Hyperscalers)

  • شركة Meta (فيسبوك سابقًا)، وهي تبني مركز بيانات ضخم في لويزيانا بقيمة مليار جنيه إسترليني يغطي نحو 4 ملايين قدم مربعة، ويستهدف أن يعمل بطاقة هائلة وبتصميم مستدام 100 %.
  • مشروع Stargate بقيادة OpenAI وSoftBank: يشمل إنشاء مركز في تكساس (أبيلين) بقدرة احتياطية تصل إلى 1.2 GW، مدعوماً بشراء كميات ضخمة من شرائح NVIDIA GB200 من Oracle لـ15 عاماً.
مخطط لمركز بيانات OpenAI في الولايات المتحدة – المصدر: data center dynamics
  • بالإضافة إلى ذلك، أطلقت OpenAI مشروعًا ضخمًا في شمال النرويج (Narvik) بدءًا بقدرة 20 MW ويتوسع لاحقًا إلى 520 MW، ويعتمد على 100,000 وحدة GPU مع نظام تبريد بالسائل، ويتميز باستخدام مستدام للطاقة.

الآثار الناتجة والضارة للبيئة

رغم أن مراكز البيانات الضخمة تمثل قفزة تكنولوجية هائلة، فإن أثرها على البيئة أصبح محور جدل عالمي متزايد. فهذه المنشآت تستهلك كميات ضخمة من الكهرباء لتشغيل الخوادم عالية الأداء وأنظمة التبريد المتطورة، وقد تصل احتياجات بعضها إلى مئات الميجاوات، وهو ما يعادل استهلاك مدينة كاملة من الطاقة.

صورة توضيحية للتلوث الناتج عن مراكز البيانات الضخمة للذكاء الاصطناعي – المصدر: sherwood news

وإذا كانت هذه الكهرباء تأتي من مصادر أحفورية، فإن الانبعاثات الكربونية الناتجة تصبح هائلة، ما يفاقم مشكلة الاحتباس الحراري.

من جهة أخرى، يشكل التبريد تحدياً بيئياً آخر؛ إذ تعتمد بعض المراكز على أنظمة تبريد بالمياه، تستهلك ملايين اللترات سنوياً، وهو ما قد يضغط على الموارد المائية في المناطق الجافة. وفي حالات أخرى، يؤدي تصريف المياه الساخنة إلى الأنهار أو البحيرات إلى الإخلال بالتوازن البيئي المحلي.

استجابة لهذه التحديات، تتجه شركات التكنولوجيا نحو حلول أكثر استدامة، مثل استخدام الطاقة المتجددة من الشمس والرياح، واعتماد تقنيات تبريد مبتكرة تقلل استهلاك المياه، وحتى إعادة استخدام الحرارة الناتجة عن الخوادم في تدفئة المباني المجاورة.

ومع ذلك، يظل الطريق طويلاً قبل أن تصبح هذه القلاع الرقمية صديقة تماماً للبيئة، خاصة مع النمو المتسارع في الطلب على الذكاء الاصطناعي الذي يزيد من الحاجة إلى بناء المزيد منها.

لماذا تتسابق الدول على تلك المراكز؟

صورة لأحد مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي – المصدر: bizjournals

أصبحت مراكز البيانات العملاقة بمثابة مفاتيح النفوذ في القرن الحادي والعشرين. فكلما امتلكت دولة قدرة أكبر على معالجة وتخزين البيانات، ازدادت قوتها في تطوير الذكاء الاصطناعي، وتحليل المعلومات، ودعم الابتكار في مجالات الاقتصاد، والأمن، والصحة، وحتى استكشاف الفضاء.

تمنح هذه المراكز الدول القدرة على تشغيل نماذج ذكاء اصطناعي هائلة الحجم، واستخلاص رؤى استراتيجية من كميات لا نهائية من البيانات، ما يعني قرارات أسرع وأكثر دقة في ميادين السياسة والاقتصاد والدفاع. لذلك، لم يعد السباق على مراكز البيانات سباقًا تكنولوجيًا فحسب، بل سباقًا على النفوذ والسيادة في عصر المعلومات.

ومن يسيطر على تدفق البيانات ويملك القدرة على معالجتها، يملك أداة حاسمة لرسم مستقبل العالم، وهذا ما يجعل هذه القلاع الرقمية ميدانًا للتنافس بين القوى الكبرى.

حين يصبح الكوكب مركز بيانات

سيطرة الذكاء الاصطناعي بين الإيجابيات والسلبيات – المصدر: semi analysis

لكن ماذا لو أن الأفق الذي نعرفه اليوم بأشجاره وأنهاره ومدنه قد تبدل إلى شبكة مترامية من المباني المعدنية الباردة، وصفوف لا تنتهي من الخوادم. ماذا لو تحولت الأرض بأكملها إلى مركز بيانات عملاق، وضوء الشاشات هو الغروب، وتيار الكهرباء هو شريان الحياة، والمياه هي الوقود لتبريد ذاكرة هذا الكوكب الرقمي.

سيكون الوجه الحضاري حينها مشرقًا بالقدرة الحسابية؛ إذ يمكن معالجة كل مشكلة معقدة في لحظات، وتخزين كل معرفة بشرية في قلب نابض واحد. لكن الوجه الآخر قد يكون كوكبًا فقد تنوعه البيولوجي، وموارده الطبيعية، ومساحاته المفتوحة، ليصبح سجنًا فخمًا للأرقام.

ذلك السيناريو ليس حتميًا، لكنه يذكرنا بأن السباق نحو القوة الرقمية يجب أن يرافقه وعي بيئي وحضاري، حتى لا نجد أنفسنا نعيش في مركز بيانات مثالي، وفي الوقت ذاته: كوكبًا لم يعد صالحًا للحياة.

?xml>