مع احتدام سباق المليارات | هل تنفجر فقاعة الذكاء الاصطناعي؟

لنعد بالزمن قليلًا إلى الوراء، إلى تلك السنوات التي عشناها نحن مواليد الثمانينات، تلك الحقبة الزمنية المميزة التي شهدت ولادة الإنترنت. هل تتذكر عزيزي القارئ تلك الضجة التي صاحبت صعود الشركات الرقمية في نهاية التسعينات؟ كانت فترة يغمرها حماس غير مسبوق؛ إذ اندفع المستثمرون، وقفزت التقييمات إلى مستويات خيالية اعتمادًا على وعود مستقبلية لم تُختبر بعد.
خلال وقت قصير تضخمت التوقعات، واشتعل سباق الاستثمار، ثم ظهر الانكماش حين تأكد ضعف كثير من تلك المشاريع، فسقطت مئات الشركات واحدة تلو الأخرى. وتحولت تلك اللحظة التاريخية إلى درس اقتصادي حي يوضح كيف يبدأ البريق حين تتكاثر الأحلام، ثم ينكمش حين يتقدم الواقع ليكشف حدود ما يمكن تحقيقه فعلًا. وأطلق على تلك المرحلة اسم: فقاعة الدوت كوم أو فقاعة الإنترنت.
اليوم، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه مع الذكاء الاصطناعي، الذي اجتذب في السنوات الأخيرة اهتمامًا واسعًا من المستثمرين ووسائل الإعلام. اندفع العالم نحو تمويل الشركات الناشئة في هذا المجال، ما أدى إلى ارتفاع تقييمات تفوق كثيرًا قدراتها الفعلية على تحقيق الأرباح. ويُقصد بفقاعة الذكاء الاصطناعي هنا: الحالة التي تتضخم فيها التوقعات حول التكنولوجيا بحيث تتجاوز الواقع الفعلي، فتتشكل حالة من الحماس المفرط والاستثمار المبالغ فيه، تشبه ما حدث مع فقاعة الإنترنت في التسعينيات.
يصف بعض الخبراء هذا الوضع بأنه «فقاعة»، إذ أن التقييمات السوقية الضخمة لا تعكس دائمًا قيمة حقيقية أو مستدامة، ويُخشى من انفجارها إذا لم تتحقق النتائج المرجوة. كما يثير هذا الأمر تساؤلًا حول إمكانية استمرار الاندفاع المالي والتكنولوجي بنفس الوتيرة، وما إذا كانت الاستثمارات الضخمة ستؤدي إلى ابتكارات فعلية أم ستتلاشى كما حدث في السابق.
في هذا المقال، نستعرض طبيعة فقاعة الذكاء الاصطناعي وأسباب تشكلها، ونناقش المخاطر المحتملة والتبعات الاقتصادية والاجتماعية لهذه الفقاعة، كما نبحث وجهات النظر حول مستقبل التكنولوجيا رغم التحديات الراهنة.
أسباب تشكل فقاعة الذكاء الاصطناعي
تشكلت فقاعة الذكاء الاصطناعي نتيجة مجموعة من العوامل التي تضافرت لتخلق بيئة استثمارية فائقة الحماس وغير متوازنة. أولًا، ضخ المستثمرون أموالًا هائلة في شركات ناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، ما رفع تقييماتها إلى مستويات مرتفعة جدًا رغم أن كثيرًا منها لا يمتلك إيرادات قوية أو نموذج ربح مستدام، وهو ما جعل قيمتها السوقية تتجاوز قدراتها الفعلية على تحقيق الأرباح.
إلى جانب ذلك، ساهم الحماس الإعلامي والتسويق المكثف في تضخيم التوقعات، فكل مشروع يعلن ارتباطه بالذكاء الاصطناعي يتم تقديمه وكأنه فرصة ذهبية، حتى لو لم يكن مبنيًا على أساس واقعي، ما زاد من الاندفاع الجماعي نحو الاستثمار. من جهة أخرى، شهدت الآونة الأخيرة استثمارات ضخمة في البنية التحتية مثل مراكز البيانات والرقائق المتخصصة، وهي موارد باهظة الثمن قد يكون عمرها الافتراضي محدودًا مقارنةً بالتوقعات الكبيرة الموضوعة عليها.
أخيرًا، لعب كبار المستثمرين ورجال الأعمال دورًا مهمًا في تعزيز الزخم؛ إذ منح تمويلهم ومشاركتهم الإعلامية بعض الشركات صفة الموثوقية والنجاح، رغم غياب الوضوح في مستقبلها الربحي، ما زاد شعور السوق بأننا أمام موجة استثمارية غير عادية تأخذ مخاطر تضخم التقييمات بعيدًا عن الواقع.

أمثلة لبعض الاستثمارات الضخمة
لعل أبرز الأمثلة على بدء تشكل تلك الفقاعة هو ما شهدته السنوات الأخيرة من تدفق هائل للاستثمارات في قطاع الذكاء الاصطناعي. فقد أعلنت شركة مايكروسوفت عن خططها لإنفاق نحو 80 مليار دولار خلال السنة المالية 2025 على بناء مراكز بيانات متخصصة لتدريب ونشر نماذج الذكاء الاصطناعي، في خطوة تؤكد سعيها للهيمنة على السوق التقنية الحديثة.
وعلى المستوى الأوسع، تخطط مجموعة شركات تقنية الكبرى، من بينها ميتا وألفابت، وأمازون لإنفاق رأسمالي يتجاوز 300 مليار دولار خلال العام نفسه، وهو ما يؤكد ضخامة الاستثمارات الموجهة نحو تعزيز قدرات الذكاء الاصطناعي وتوسيع بنيته التحتية.
وفي أوروبا، أظهرت فرنسا التزامًا استثماريًا كبيرًا يُقدر بنحو 20 مليار يورو لإنشاء مراكز بيانات للذكاء الاصطناعي، بينما تمكنت شركات ناشئة مثل Mistral AI من جمع تمويل ضخم في جولاتها الاستثمارية.
أما على المستوى العالمي، فقد جمعت الشركات الناشئة العاملة في الذكاء الاصطناعي نحو 73.1 مليار دولار في الربع الأول من عام 2025 وحده، في تأكيد لوتيرة النمو السريعة والحمى الاستثمارية التي يشهدها القطاع. وبالعودة إلى الفترة الممتدة بين 2013 و2024، فقد بلغ حجم الاستثمار الخاص في الذكاء الاصطناعي نحو 470 مليار دولار في الولايات المتحدة، بينما استحوذت الصين على نحو 119 مليار دولار خلال نفس الفترة.

تحذيرات من الجهات المالية والتنظيمية
أصدرت جهات مالية وتنظيمية عدة تحذيرات حول ما يُمكن وصفه بفقاعة الذكاء الاصطناعي، مشيرة إلى مخاطر محتملة على الأسواق المالية والشركات الناشئة على حد سواء. فقد حذر البنك المركزي الأوروبي من أن الأسهم المرتبطة بالذكاء الاصطناعي قد تتضخم قيمتها بشكل مبالغ فيه، خصوصًا مع اعتماد كثير من الصناديق الاستثمارية على أصول تفتقر إلى سيولة كافية، ما قد يضطرها إلى بيع ممتلكاتها بشكل اضطراري ويؤدي إلى تراجع حاد في الأسعار.
وعلى ذات المنوال، حذر بنك إنجلترا من احتمال حدوث «تصحيح حاد» في السوق نتيجة التركيز الكبير للاستثمارات في عدد محدود من الشركات، وهو ما يزيد من هشاشة الأسواق أمام أي تغير مفاجئ في التوقعات. إلى جانب ذلك، تضاعفت المخاطر التنظيمية والتشغيلية على الشركات الناشئة، خاصة تلك التي بنت استثمارات ضخمة في البنية التحتية مثل مراكز البيانات والرقائق المتخصصة؛ حيث أن أي تراجع في الطلب أو في أداء هذه الشركات قد يؤثر على استقرار السوق ككل.

تبعات انفجار فقاعة الذكاء الاصطناعي
إذا انفجرت فقاعة الذكاء الاصطناعي، فإن التبعات الاقتصادية قد تكون واسعة وعميقة، وتشمل مستويات متعددة من الأسواق والمجتمع. أول المتأثرين سيكون المستثمرون؛ إذ أن كثيرًا من الشركات الناشئة التي حصلت على تمويلات ضخمة تُقدر بمئات الملايين أو حتى مليارات الدولارات قد تفقد قيمتها السوقية بالكامل.
أما أسواق الأسهم العالمية، فقد تشهد اهتزازًا كبيرًا إذا تركزت نسبة كبيرة من الاستثمارات في شركات مرتبطة بالذكاء الاصطناعي، فمبيعات جماعية أو تصحيحات حادة في التقييمات يمكن أن تُؤدي إلى موجة بيع عابرة للقطاعات التكنولوجية.
جانب آخر يتعلق بالبنية التحتية الضخمة التي استثمرت فيها الشركات الناشئة، مثل مراكز البيانات والرقائق والخوادم المتخصصة؛ إذ يمكن أن تتبخر هذه الاستثمارات إذا لم تُستخدم بشكل فعال، فتتحول الأصول المكلفة إلى عبء مالي يثقل كاهل المستثمرين والشركات على حد سواء.
كما تمتد التبعات لتطال الاقتصاد والمجتمع بشكل أوسع؛ فخسائر المستثمرين وتراجع الثقة في السوق قد يقللان من ضخ الاستثمارات المستقبلية، ما يؤدي إلى تباطؤ الاستهلاك وتهديد الشركات التي بنت استراتيجياتها حول نمو الذكاء الاصطناعي. وقد ينجم عن ذلك موجة من التباطؤ الاقتصادي وتأثر سوق العمل، وهو ما يجعل فقاعة الذكاء الاصطناعي أزمة محتملة ذات انعكاسات اقتصادية واجتماعية كبرى.

تحليل الفجوة بين التوقعات والواقع
يقدم البحث الأكاديمي الحديث مفهوم معدل تحقيق القدرات (Capability Realization Rate) كأداة لقياس الفارق بين القدرات النظرية المتوقعة لتقنيات الذكاء الاصطناعي وما يتم تحقيقه فعليًا على أرض الواقع.
تشير الدراسات إلى أن كثيرًا من الشركات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي يتم تقييمها بناءً على وعود القدرات المستقبلية وليس على النتائج ملموسة أو الإيرادات الحقيقية. هذا التباين بين التوقعات والواقع يجعل التقييمات السوقية عرضة للمبالغة، ويخلق خطر تضخم القيم بعيدًا عن الأداء الفعلي للشركات.
يُستخدم هذا النموذج لتحليل مدى المطابقة بين التوقعات والإمكانات الفعلية، وهو يوضح أن الأسواق قد تمنح شركات جديدة تقييمات مرتفعة بناءً على سيناريوهات طفرة كبيرة للذكاء الاصطناعي، في حين أن الأداء الفعلي أو العوائد قد تكون أقل بكثير. هذه الفجوة بين الواقع والتوقعات تُعرف بـ «مخاطر عدم المطابقة بين القيمة الحقيقية والقيمة السوقية»، وهي مؤشر رئيسي على احتمالية وجود فقاعة.

آراء شخصيات بارزة
أثارت موجة الاستثمار الضخم في الذكاء الاصطناعي ردود فعل متباينة من كبار رجال الأعمال والمستثمرين. فقد وصف جيف بيزوس في أواخر 2025 هذه الموجة بأنها «فقاعة صناعية»، مشيرًا إلى أن العديد من الشركات الناشئة تحصل على تمويلات ضخمة رغم ضعف القيمة الملموسة لما تقدمه. وأوضح أن الحماس الهائل للسوق يجعل التمييز بين المشاريع الجادة والتجارب العشوائية صعبًا للغاية.
في المقابل، يرى بعض المحللين أن الفقاعة قد تكون جزئية فقط، أي أن بعض الشركات ستنهار بينما تبقى شركات وبنى تحتية ناجحة تستفيد من الاستثمار الحالي. ويشير بعض المستثمرين الكبار مثل وارن بافيت إلى أن بعض الأسهم المرتبطة بالذكاء الاصطناعي مبالغ في تقييمها مقارنة بالأداء الفعلي، ما يحث على توخي الحذر من المضاربة المفرطة.
يضيف البعض أن الاستثمار في البنية التحتية مثل مراكز البيانات والرقائق والخوادم، حتى لو فشلت بعض الشركات، سيترك إرثًا تقنيًا يستفيد منه الاقتصاد الرقمي في المستقبل. وهذا يثير جدلية مهمة: هل ما نشهده هو موجة مضاربة قصيرة الأمد، أم أنها مرحلة تأسيس لبنية رقمية قوية تخدم ابتكارات مستقبلية في مختلف القطاعات؟
وجهة نظر متفائلة
ربما أحمل وجهة نظر مختلفة؛ أرى أن الضخ الاستثماري الكبير في الذكاء الاصطناعي اليوم لا يعني بالضرورة خسارة تامة إذا ما انفجرت الفقاعة. فحتى في حال انخفاض التقييمات وانهيار بعض الشركات الناشئة، ستظل البنية التحتية التي يتم إنشاؤها الآن، من مراكز بيانات فائقة القوة إلى رقائق معالجة متقدمة وأجهزة حوسبة متطورة، رصيدًا استثماريًا مفيدًا على المدى الطويل، يمكن الاعتماد عليه لتطوير تطبيقات وتقنيات جديدة.
يُقارن كثيرون الوضع الحالي بما حدث خلال فقاعة الدوت‑كوم (الإنترنت) في أواخر التسعينيات وأوائل الألفينات؛ لكن البنية التحتية الرقمية التي بُنيت خلال تلك الفترة، مثل: الشبكات، مراكز البيانات، وبروتوكولات الإنترنت، بقيت كأساس لعصر الإنترنت الحديث الذي نعيشه اليوم، وهو ما ساعد على نشوء ابتكارات حقيقية وشركات ناجحة بعد الانهيار.
في سياق الذكاء الاصطناعي، أعتقد أن الاستثمارات الحالية قد تؤدي إلى ابتكارات فعلية تغير شكل الاقتصاد والمجتمع الرقمي. ومن الرعاية الصحية والتعليم إلى الصناعة والتصنيع الذكي، يمكن لهذه التقنية أن تدعم تطوير منتجات وخدمات جديدة، وتحسن الكفاءة في مختلف القطاعات. وحتى إذا تلاشت بعض الشركات، فإن الإرث التكنولوجي الذي تخلفه سيستمر في دعم التطوير والابتكار، ما يجعل الضخ الاستثماري الحالي بمثابة الأساس الذي يهيئ الأرضية لمستقبل رقمي أقوى وأكثر إنتاجية.

ماذا لو لم تنفجر الفقاعة؟
أما إذا لم تنفجر فقاعة الذكاء الاصطناعي، فإن المستقبل قد يحمل لنا سيناريو نمو مستدام تتطور فيه هذه التكنولوجيا تدريجيًا وباستقرار، بعيدًا عن الصعود والانهيار المفاجئ الذي تشهده الفقاعات التقليدية. في هذا السيناريو، ستتجه الاستثمارات الضخمة نحو مشاريع إنتاجية حقيقية، تبدأ من بناء بنية تحتية قوية للذكاء الاصطناعي، مرورًا بتمويل البحث والتطوير، وانتهاءً بتطبيق حلول تقنية مبتكرة تخدم قطاعات متعددة.
على سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُحدث تحولًا كبيرًا في قطاع الصحة من خلال أنظمة تشخيص دقيقة، وتحليل بيانات ضخمة لتسريع الاكتشاف الطبي، وفي التعليم من خلال حلول تعليمية ذكية وشخصية تتكيف مع احتياجات الطلاب، وكذلك في الصناعة عبر أتمتة العمليات ورفع الإنتاجية وتقليل الهدر.
يعني هذا التحول أن موجة الاستثمار لن تبقى أرقامًا على الورق، بل ستُترجم إلى قدرات حقيقية لتطوير اقتصاد رقمي مستدام وقادر على الابتكار طويل الأمد. كما ستنشأ فرص عمل جديدة مرتبطة بتصميم وتشغيل وصيانة هذه الأنظمة، بالإضافة إلى وظائف في مجالات البحث والتطوير والتحليل، مع تعديل طبيعة بعض الوظائف التقليدية لتتكامل مع البيئة الرقمية المتقدمة. ومع ذلك، يبقى التحدي قائمًا؛ إذ قد تواجه بعض المشاريع صعوبات في تحقيق العائد المتوقع أو ربما تتأخر النتائج المنتظرة.
ومن منظور المستثمرين، يمثل هذا السيناريو دعوة للتأني والدراسة العميقة، مع التركيز على القيمة الحقيقية والقدرة الإنتاجية للتقنيات والاستثمارات، وتجنب الانجراف وراء الضجيج الإعلامي أو التقييمات المبالغ فيها. من خلال هذا التوازن، يمكن تحويل ما يبدو اليوم كموجة استثمارية ضخمة إلى قاعدة متينة لحقبة إنتاجية مستدامة، تجعل الذكاء الاصطناعي قوة دافعة للتقدم الاقتصادي والاجتماعي، بدلًا من أن يصبح «فقاعة زائلة».
