هل تقودنا Neuralink نحو التواصل العقلي وقراءة الأفكار عبر البلوتوث؟

منذ بدء الخليقة، بقيت أفكار الإنسان محصورة خلف جدران جمجمته، عصيَّة على الآخرين، مهما اقتربوا منه أو أحبوه. لطالما كانت الكلمات جسورًا هشة بين العقول، عاجزة عن نقل ما يدور في الداخل بكل دقته وتعقيده. لكن ماذا لو تغير كل ذلك؟ ماذا لو بات بإمكاننا أن نرسل فكرة كما نرسل رسالة نصية؟ أن نُترجم شعورًا بلا صوت أو نُحرك آلة بمجرد أن نرغب؟
في الآونة الأخيرة، لم يعد هذا السؤال ضربًا من الخيال. فقد انتشرت بعض الأخبار عن تجارب حقيقية تمت فيها زراعة شريحة في دماغ بشري تنقل الإشارات العصبية إلى جهاز كمبيوتر، وتحول النية إلى حركة والفكرة إلى فعل. لم يعد العقل حبيس الجسد، بل بدأت التكنولوجيا تطرق أبواب الوعي ذاته.
في قلب هذه الثورة الصامتة، تقف مشاريع طموحة مثل Neuralink، تسعى لتوصيل الدماغ البشري مباشرة بالأجهزة، متجاوزة الحواس والكلمات وكل الوسائط التقليدية. الفكرة بسيطة ومذهلة في آن واحد: أن نجعل العقل نفسه يتحدث بلغة الآلات، وأن يصبح التخاطر، تقنية قابلة للبرمجة.
فهل نحن حقًا على أعتاب عصر جديد من التواصل؟ وهل نمتلك ما يكفي من الحكمة لفهم تبعاته؟
في هذا المقال، نغوص معًا في أعماق هذه التحولات الجذرية، نستعرض أحدث التجارب، ونستكشف كيف أصبح المستقبل الذي لطالما تخيلناه، يطرق أبواب الحاضر بقوة لا يمكن تجاهلها.
Neuralink: حين يصبح الدماغ جهازًا قابلاً للاتصال
في عام 2016، أعلن إيلون ماسك عن مشروع بدا حينها كأنه مزحة طموحة، وهو زراعة شريحة إلكترونية داخل دماغ الإنسان، تسمح له بالتواصل مباشرة مع الحواسيب والأنظمة الذكية. أطلق على المشروع اسم Neuralink، ووصفه بأنه محاولة لحماية البشرية من التفوق المحتمل للذكاء الاصطناعي، من خلال تعزيز قدرات الدماغ البشري وربطه بالتكنولوجيا المتقدمة.
لكن ما بدأ كتصريح مثير، تحول خلال سنوات قليلة إلى مختبر فعلي يعمل على تطوير أجهزة فائقة الدقة تُزرع داخل الدماغ وتقرأ الإشارات العصبية، ثم تترجمها إلى أوامر قابلة للتنفيذ.
وفي مطلع عام 2024، أذهلت Neuralink العالم عندما أعلنت عن أول عملية ناجحة لزرع شريحة في دماغ إنسان، تمكن بعدها المريض من التحكم بمؤشر ماوس الحاسوب بمجرد التفكير. لم يكن هذا مجرد إنجاز تقني، بل إعلانًا واضحًا بأن الجسر بين الدماغ والآلة قد بدأ يُبنى بالفعل.
لكن Neuralink لم تكن وحدها في هذا المضمار. فمؤسسات بحثية حول العالم، مثل جامعة ستانفورد، أجرت تجارب مشابهة على مرضى يعانون من الشلل، واستطاعت تمكينهم من الكتابة والتواصل باستخدام إشارات أدمغتهم فقط، دون أي حركة عضلية.
كيف يعمل الربط العصبي؟

في قلب هذه التقنية الثورية، يكمن مبدأ بسيط وهو أن الدماغ يتحدث بلغة كهربائية. فكل فكرة أو حركة أو إحساس يمر عبر إشارات كهربائية دقيقة تُرسل بين مليارات الخلايا العصبية. هذه الإشارات، التي تُعرف بالنبضات العصبية أو Spikes، تشبه إلى حد كبير رموزًا رقمية، لكنها تحدث داخل شبكة معقدة من الأعصاب.
ما تفعله شرائح مثل تلك التي تطورها Neuralink هو التقاط هذه الإشارات من مناطق محددة في الدماغ، عادة من القشرة الحركية المسؤولة عن إصدار الأوامر للحركة. إذ تُزرع الشريحة مباشرة على سطح الدماغ أو داخله، وتتصل بأقطاب فائقة الدقة (أرفع من الشعرة البشرية)، مغلفة بطبقات دقيقة من الذهب أو البلاتين، وقادرة على تسجيل الإشارات العصبية بدقة عالية دون إحداث ضرر كبير للأنسجة المحيطة.

بمجرد التقاط هذه الإشارات، تُرسل إلى جهاز حاسوب خارجي عبر تقنية لاسلكية مثل البلوتوث أو موجات الراديو منخفضة الطاقة. وهناك، تتولى خوارزميات متقدمة، تعتمد على الذكاء الاصطناعي، تحليل هذه الإشارات وفهمها. على سبيل المثال، إذا كانت الإشارة تعبر عن رغبة في تحريك مؤشر الماوس على شاشة الحاسوب، تترجمها الخوارزمية إلى أمر لتحريك المؤشر على الشاشة.
هذه العملية تُعرف علميًا باسم: واجهة الدماغ والحاسوب (Brain Computer Interface – BCI)، وهي مجال بحثي نشط يتداخل فيه علم الأعصاب، والهندسة الحيوية، والذكاء الاصطناعي. والهدف النهائي هو تطوير أنظمة تفهم العقل البشري ليس فقط على مستوى الحركة، بل على مستوى النية والإدراك، وربما لاحقًا المشاعر.
شريحة Telepathy: بوابة العقل نحو العالم الرقمي

تُعد شريحة Telepathy التي طورتها شركة Neuralink، أحد أكثر الابتكارات إثارة في مجال واجهات الدماغ والآلة، وقد صُممت لتكون بمثابة حلقة وصل بين العقل البشري والتكنولوجيا الحديثة، بحيث تتيح للمستخدم التحكم بالأجهزة الرقمية من خلال التفكير فقط، دون الحاجة إلى أي حركة جسدية.
تتكون الشريحة من وحدة إلكترونية صغيرة جدًا تُزرع مباشرة في الجمجمة، وأبرز ما يميز Telepathy عن الإصدارات السابقة من واجهات BCI هو أنها تعمل لاسلكيًا بالكامل، دون الحاجة لأي أسلاك أو توصيلات خارجية دائمة، ما يجعلها أكثر راحة وأمانًا للمستخدمين. وتُشحن هذه الوحدة باستخدام تقنية الشحن اللاسلكي، بطريقة شبيهة بشحن الهواتف الذكية.

كما أن الشريحة قادرة على قراءة مئات الإشارات العصبية في نفس اللحظة، بفضل تقنيتها المتقدمة في التقاط النبضات الكهربائية وتحليلها باستخدام خوارزميات تعتمد على الذكاء الاصطناعي. تتعلم هذه الخوارزميات بمرور الوقت كيف تفسر نوايا المستخدم بدقة متزايدة، فتُحول أفكاره إلى أوامر حاسوبية، مثل فتح تطبيق أو كتابة رسالة أو تحريك مؤشر أو حتى التحكم في روبوت.
ووفقًا لإيلون ماسك، فإن الهدف من Telepathy في مرحلتها الأولى هو استعادة القدرة على التواصل للأشخاص المصابين بالشلل الكامل، وتمكينهم من التحكم بالأجهزة الرقمية باستخدام العقل فقط. أما على المدى البعيد، فتهدف الشركة إلى دمج قدرات الذكاء الاصطناعي مع الإدراك البشري، فيما يُعرف بالتعايش العصبي مع الذكاء الاصطناعي.
تجارب عملية ترسم ملامح المستقبل

بدأت الفكرة تتجسد فعليًا على أرض الواقع، من خلال تجارب طبية موثقة تفتح الباب أمام عصر جديد من التواصل العقلي المباشر. ففي يناير 2024، أعلنت شركة Neuralink عن أول عملية ناجحة لزرع شريحة دماغية في إنسان، ضمن تجربة سريرية أُطلق عليها اسم PRIME، وهي اختصار لعبارة «واجهة دماغ حاسوب مزروعة باستخدام الروبوت في البيئة البشرية».

كان المتطوع شابًا يُدعى نولاند أربو، يعاني من شلل رباعي أقعده عن الحركة منذ سنوات. وبعد أيام فقط من إجراء الجراحة، استطاع نولاند تحريك مؤشر الماوس على شاشة الحاسوب بمجرد التفكير، دون أن يستخدم يديه أو أي أداة مساعدة. وقد أعلن إيلون ماسك عن هذا النجاح بنفسه، مشيرًا إلى أن الجهاز الذي يحمل اسم Telepathy، استطاع نقل الإشارات العصبية من دماغ المريض إلى الحاسوب عبر واجهة لاسلكية.

كما شهد عام 2025 تطورًا مهمًا آخر، حين خضعت سيدة تُدعى أودري كروز، وهي مشلولة بالكامل منذ أكثر من عشرين عامًا، لعملية زرع شريحة مماثلة. وبعد فترة قصيرة من الجراحة، ظهرت في مقطع فيديو وهي ترسم وتكتب اسمها وتتفاعل مع الألعاب الرقمية، وكل ذلك من خلال عقلها فقط، دون أن تحرك إصبعًا. وقد كانت أودري واحدة من أوائل من استخدموا واجهة Telepathy فعليًا كوسيلة تواصل يومية، تُغني عن اللمس والصوت.
ولم تقتصر هذه التجارب على الولايات المتحدة. ففي يوليو 2025، أعلنت شركة Neuralink عن توسيع دراساتها لتشمل بريطانيا، بالتعاون مع مستشفيات جامعية مرموقة مثل UCL وNewcastle. ويشارك حاليًا في هذه المرحلة الجديدة خمسة مرضى مصابين بالشلل الكامل، يخضعون لتجارب سريرية تهدف إلى اختبار دقة وكفاءة الواجهة العصبية في حالات معقدة، مع متابعة مستمرة على المستوى العصبي والنفسي والسلوكي.
من علاج الشلل إلى التواصل العقلي الجماعي

بينما تركز المرحلة الأولى من تطوير شريحة Telepathy على مساعدة مرضى الشلل وفقدان النطق، فإن الرؤية المستقبلية لهذه التقنية تتجاوز بكثير حدود العلاج الطبي. ففي أفق تطورها، نرى عالماً تتداخل فيه حدود الفكر والإدراك، وتصبح فيه الأجهزة امتداداً للعقل، لا مجرد أدوات خارجية.
من أبرز التطبيقات المحتملة مستقبلاً، هو التحكم الكامل بالأجهزة الذكية والروبوتات باستخدام التفكير فقط. تخيل عزيزي القارئ أن تفتح حاسوبك أو ترسل رسالة بمجرد أن تفكر بذلك أو أن تقود سيارة بأوامر عقلية دون أن تحرك إصبعاً.
كما تُفتح آفاق جديدة في مجال التعليم ونقل المهارات، حيث يمكن مستقبلاً تخزين المعلومات أو نقلها من دماغ إلى آخر مباشرة، دون الحاجة لقراءة أو مشاهدة. قد يبدو هذا ضرباً من الخيال العلمي، لكنه يمثل أحد الأهداف التي صرح بها ماسك، حيث تحدث عن إمكانية «رفع» المعرفة إلى الدماغ كما نرفع الملفات إلى الحاسوب.

ولعل التطبيق الأبرز والأكثر إثارة للجدل هو ما يُعرف بـالتواصل العقلي المباشر أو ما يمكن تسميته بـ «البلوتوث العقلي». في هذا السيناريو، يمكن لشخصين يمتلكان الشريحة أن يتبادلا الأفكار والمشاعر دون كلمات أو حواس. كأن تفهم ما يشعر به الآخر دون أن ينطق بحرف أو أن تجري حوارًا كاملًا مع شخص آخر في صمت ويفهم كل منكما الآخر تمامًا.
كذلك، قد تفتح هذه التقنية آفاقًا جديدة في علاج الأمراض النفسية والعصبية، مثل الاكتئاب والفصام، من خلال إعادة توصيل الشبكات العصبية المعطلة أو حتى مراقبة النشاط الدماغي في الوقت الحقيقي وتحسينه عبر الذكاء الاصطناعي.
حين تصبح الأفكار لغة العالم

تقف البشرية اليوم على عتبة تحول وجودي. فلم تعد أجهزة الكمبيوتر مجرد أدوات في متناول أيدينا، بل باتت تقترب من أن تصبح جزءًا من أدمغتنا نفسها. ومع صعود تقنيات مثل Telepathy، لا نتحدث فقط عن تسهيل حياة المصابين أو تطوير قدراتنا، بل عن إعادة تعريف ما يعنيه أن نفكر، أن نتواصل، أن نظل كما نحن، بشراً.
ورغم الإغراء التي تحمله هذه الإمكانية، فإن الطريق محفوف بالتساؤلات: هل نملك الشجاعة للولوج إلى عقولنا بأنفسنا؟ هل نثق بأن من يتحكم بالشريحة لا يتحكم بنا؟ وهل يحق لأحد أن يقرأ أفكارنا ولو بحجة تقديم العلاج؟
بين الخوف والأمل، تظل الحقيقة واضحة؛ نحن نقترب أكثر من أي وقت مضى من لحظة تصبح فيها الفكرة أسرع من الكلمة. والتواصل لا يحتاج لشفاه، بل فقط لعقل متصل. ولعل ما كان خيالًا علميًا في الأمس، صار اليوم نبضًا كهربائيًا صغيرًا، في انتظار أن يُترجم إلى فكرة، ثم إلى واقع.
?xml>